من حق كل إنسان أن يسوّق نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة؛ فهذه تفعل ذلك بالصور، وذلك بالنكات، وأخرى بإعداد وصفات الطعام، وتلك عبر حيل منزلية تجعل الغسيل الأبيض أكثر نصاعة. المنصات الرقمية اليوم منحت كل شخص فرصة أن يكون «مؤثرًا» وفق مقاييسه الخاصة، وأن يجد لنفسه مساحة يعرض فيها ما يملك من مهارات أو حتى مجرد حضور.
لكن يبقى السؤال الأكبر: كيف يكبر هؤلاء؟ وكيف تنتشر محتوياتهم على هذا النحو المذهل؟ هل السرّ في خوارزميات المنصات التي تدفع بما هو مثير للفضول على حساب ما هو عميق؟ أم أن الجمهور نفسه يبحث عن الترفيه السهل أكثر من المعلومة الرصينة؟ هنا تكمن المفارقة التي تستحق التأمل: ليس الخلل فقط في طبيعة ما يُقدّم، بل في الأعداد الكبيرة التي تتابع وتُشرعن هذه الأنماط من «التأثير».
المشهد الأردني اليوم يكشف عن مفارقة مقلقة. فالمشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في المحتوى السطحي أو الهابط الذي يقدّمه بعض من يُطلق عليهم «مؤثرون» على منصات التواصل الاجتماعي، بل في الأعداد الضخمة التي تتابع هذا المحتوى وتعيد إنتاجه وتمنحه شرعية التأثير. هنا يتحول السؤال من «لماذا يقدّم هؤلاء هذا النوع من المواد؟» إلى «لماذا يختار الجمهور أن يتلقاها ويحتفي بها، ويشهر أصحابها؟».
لقد اعتدنا أن نحمّل صناع المحتوى مسؤولية تدني الذائقة العامة، لكن الحقيقة أن التأثير لا يقوم من طرف واحد. فالمعادلة لا تكتمل إلا بوجود جمهور متعطش لمثل هذه المواد، جمهور يجد في التسلية السطحية ملاذًا من الضغوط أو وسيلة للهروب من واقع مأزوم. وبذلك يصبح المؤثر انعكاسًا لاختيارات الجمهور قبل أن يكون صانعًا لها.
المشهد يكشف عن أزمة أعمق من مجرد «هبوط مستوى محتوى». نحن أمام مؤشر إلى تحولات في القيم الاجتماعية، حيث ينجذب كثيرون إلى الاستعراض، الاستهلاك المفرط، والنجومية السريعة، أكثر من انجذابهم إلى الثقافة والمعرفة والفكر. هذه ليست مشكلة «شخصية» لصانع المحتوى بقدر ما هي مرآة لحالة جماعية تكشف ضعف البنية الثقافية والإعلامية التي كان يمكن أن تقدّم بدائل أكثر جاذبية ورقيًا.
ما يمنح هذه الظاهرة خطورتها هو أن ملايين المشاهدات والإعجابات تحوّل «التفاهة» إلى سلعة رابحة، بل إلى معيار للنجاح. فيصبح من الصعب مساءلة المؤثرين أو حتى إقناعهم بتغيير أسلوبهم، طالما أن السوق ، أي الجمهور، «عايز كده» بل يطلب هذا النوع من البضاعة ويدفع مقابلها ان لزم الأمر.
الحل لا يكمن في الشكوى من المؤثرين، بل في تعزيز الوعي لدى المتلقين. فالمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية مدعوة اليوم إلى أن تنافس على مساحة الانتباه نفسها، ولكن بأدوات مبتكرة وجذابة. المطلوب ليس محاربة الترفيه، بل موازنة المشهد بمحتوى يمنح المتابع متعة ومعرفة معًا.
المشهد الأردني يعيد طرح سؤال قديم بصياغة جديدة: هل يفرز المجتمع نخبته، أم أن النخبة هي التي ترفع المجتمع؟ في زمن السوشال ميديا، يبدو أن الإجابة باتت أوضح: المؤثرون ليسوا سوى انعكاس لاختيارات الجمهور، وما لم تتغير هذه الاختيارات، ستبقى الشرعية تُمنح لمن يقدّم الأسهل والأسرع، لا لمن يقدّم الأعمق والأجمل.