في زمن البغبغة

الصخب يلتهم كل شيء. تتعالى الأصوات بلا روح وكأنها طقوس محفوظة حولنا. وجوه متشابهة مخفية خوفها في ابتسامات باهتة. يهتفون، وكأن الصمت موت، والسؤال عار. لا يهم في زمننا هذا ما ترى، بل كم تشبه الآخرين. ولا يهم ما تؤمن به، بل كم تردد ما يؤمنون به. المختلف غريب.
لم يعد مطلوبا منك أن تفكر، بل أن «تبغبغ». أن تهز رأسك موافقا لا أن ترفع حاجبيك مستغربا. أن تنضم إلى الجوقة لا أن تناقش. الرأي المختلف شبهة والحياد خيانة والسؤال نذير فتنة. لم نعد نحتمل عبارة لا أتفق ولا نتقبل وجها لا يعكس ملامحنا. نحرس الإجماع بسياط القداسة ونرجم الفكرة الخارجة وكأنها وباء.
نحن لا نرتعب من الاختلاف بقدر ما نرتعب من صورته في المرآة لأنها تكشف هشاشة يقيننا، وتجبرنا أن نرى أن الآخر قد يملك شيئا من الحقيقة وأننا لسنا مركز الكون. وهذه شجاعة نفتقدها وراحة داخلية لم نعشها. أن تقول أنا أرى فأنت بخير لكن أن تهمس وقد أكون مخطئا فهذا ارتداد عن العقيدة التي صغتها من قناعتك.
  المؤلم أن الكثيرين لا يرفضون الرأي لأنه خاطئ بل لأنه مختلف. وجوده يفضح هشاشة القناعة وغياب التنوع في الداخل. رفضنا للاختلاف ليس دفاعا عن الصواب بل ارتباك أمام المجهول. نقول إننا نحب التعدد لكننا نطالب بالتطابق. نرحب بالنقد ما دام لا يطالنا. نرفع شعار الحرية ثم ندفنه باسم الثوابت أو الولاء أو المصلحة العامة. الاختلاف ليس ترفا بل ضرورة وجودية. هو صمام أمان ضد أفكار تتحول إلى أصنام وضد مجتمعات تزحف إلى قمع ناعم دون أن تدري. أن تسمع المختلف لا يعني أنك ضعيف بل أنك قوي بما يكفي لتحتمل احتمال الخطأ في ذاتك.
في حضرة بل في حظيرة هذه المعضلة لا يبدو الصمت خضوعا بل نضج والمخالفة  ليست خروجا عن الجماعة بل عودة إلى الذات. فالحقيقة لا تنحاز لصوت القطيع بل تقف دائما مع من يجرؤ على أن يرفع رأسه ويهمس: ربما أنا المخطئ، وربما كل ما حولي خوف من صوت مختلف.