في دولةٍ تسعى إلى ترسيخ العدالة المالية وتعزيز سيادة القانون، لم تعد الخطوات الإصلاحية مجرّد برامج حكومية تُعلن على الورق، بل غدت مسارات واضحة نحو اقتصاد أكثر نزاهة وشفافية. ومن بين هذه المسارات، تبرز الفوترة الإلكترونية كأحد أكثر الأدوات حداثةً وفاعلية في معركة الأردن الطويلة ضدّ التهرب الضريبي.
لقد كان الاقتصاد الأردني – لسنواتٍ طويلة – يعاني من ثقوب واسعة في جدار التحصيل الضريبي، ثقوب صنعها التهرب، والتخفّي، وسوء تنظيم بعض القطاعات، حتى غدا الفارق بين الإيرادات المتوقعة والإيرادات الفعلية فجوة مؤلمة يدفع ثمنها الوطن والمواطن. فجاءت الفوترة الإلكترونية لتقول بوضوح: "آن أوان الشفافية.. ولن يكون هناك اقتصاد ملتبس بعد اليوم.”
الفوترة الإلكترونية ليست مجرد تحويل ورقة فاتورة إلى ملف رقمي، وليست رفاهية تقنية تُضاف إلى منظومة العمل. إنها ثورة في طريقة مراقبة المعاملات التجارية، وثقافة جديدة ترفع الغطاء عن كل حركة بيع وشراء، لتجعلها مرصودة، موثقة، ومحمية من التلاعب. فالشركات، والمحال التجارية، والقطاعات الخدمية، باتت مطالبة بإصدار فواتير لحظية تُرسل مباشرة إلى النظام الضريبي، دون فرصة للتلاعب بالأرقام أو إخفاء المعاملات.
لقد أحدث هذا النظام – منذ بدء تطبيقه – هزة إيجابية في بنية السوق. انحسر التهرب الضريبي في العديد من القطاعات، وارتفعت ثقة المواطن بشعور الانصاف الضريبي. فحين يصبح الجميع تحت سقف واحد من الشفافية، يتساوى التاجر الكبير والصغير في الالتزام، وينتهي زمن "الفاتورة المخبأة” و”المعاملة غير المسجلة”.
إن الدور الذي تلعبه الفوترة الإلكترونية اليوم يتجاوز الجانب الرقابي، ويمتد إلى بناء ثقافة اقتصادية جديدة؛ ثقافة تعترف بأنّ الدولة شريك، وليست خصمًا، وأن الالتزام الضريبي ليس عبئًا، بل واجبًا وطنيًا يسهم في دعم التعليم والصحة والبنية التحتية والخدمات التي يستفيد منها الجميع دون استثناء.
وقد أثبتت التجارب العالمية أنّ الدول التي اعتمدت الفوترة الإلكترونية شهدت ارتفاعًا ملموسًا في التحصيل الضريبي، وانخفاضًا كبيرًا في ضياع الإيرادات، وتحسّنًا واضحًا في ثقة المستثمرين. واليوم يسير الأردن في الطريق ذاته، بخطوات واثقة، مدعومة بإرادة سياسية ومؤسسية واضحة لمنع التهرب، وتحقيق عدالة مالية يشعر بها كل مواطن.
إن النجاح الحقيقي لهذه المنظومة لا يكتمل إلا بتعاون الجميع؛ من التاجر والمحاسب والمستهلك، إلى المؤسسات الحكومية والرقابية. فالفوترة الإلكترونية ليست قانونًا يُفرض، بل منظومة نزاهة تُبنى، وجدار ثقة يُعاد ترميمه بين المواطن والدولة.
وفي النهاية، يمكن القول إنّ الفوترة الإلكترونية لم تأتِ لمحاربة التهرب الضريبي فقط، بل جاءت لتكتب فصلًا جديدًا في مسيرة الإصلاح المالي في الأردن؛ فصلًا عنوانه الشفافية، ومضمونه العدالة، وهدفه اقتصاد أقوى، ودولة أكثر قدرة على مواجهة تحديات المستقبل.