"تشرين الثّاني" وقطرةُ المطرِ الأُولى

كلُّ شيء تغيّر هذا العام؛ فالحنينُ الذي كان يزورنا باكرًا في تشرين الأوّل تأخّر قليلًا، وكأنّه كان منشغلًا بترتيب ذاكرةٍ جديدةٍ لنا.

لم تأتِ أُولى الشتويّة في موعدها المعتاد، ولم ترتجف نافذتي كما كلّ عام، بقيتُ أترقّب، أراقب السماء، وأُصغي لذلك الصمت الذي يسبق الحنينَ دائمًا، إلى أن جاء تشرين الثّاني، وجاءت معه قطرةُ المطر الأولى، تلك التي نزلت الآن فأيقظتْ شيئًا عميقًا في الروح.

ربّما تأخّر فينا الحنينُ هذا العام، لكنّه حين وصل لم يكن خفيفًا ولا عابرًا، بل جاء دافئًا، هادئًا، مُحمّلًا بأسماءٍ ووجوهٍ وروائحَ وأماكنَ كدتُ أظنّ أنّني تجاوزتها.

ولعلّ أجمل ما في الحنين أنّه لا يلتزم بالمواسم، ويأتي حين يشاء، ومعه يعود كلُّ ما اعتقدنا أنّنا نسيناه أو تجاهلناه، سواءٌ كان قرارُنا هذا عن قصدٍ أو دون قصد.

وهذا ما جعلني أُدرك أنَّ الحنين لا يتأخّر أبدًا، فهو فقط ينتظر اللحظة التي نكون فيها جاهزين لاستقباله، ومهما غيّر موعدَه، واختار شهرًا جديدًا ليظهر فيه، يبقى حضورُه صادقًا شفّافًا كما هو، وما بين قطرة مطرٍ أولى وذكرى غابتْ كثيرًا؛ نتعلّمُ كلَّ عامٍ أنَّ الذاكرة لا تفقد طريقَها، بل تعود حين تُريد، لتخبرنا أنَّ ما تخبّئه فينا لم يُغادرنا أبدًا.