في السياسة أحياناً يكفي تغيير كلمة واحدة ليقلب المعنى رأساً على عقب. فـ»الدفاع» يوحي بالحماية، بالصبر، بالاتزان. بينما «الحرب» تنفجر في الأذن مثل صفارة إنذار. اليوم، لم يعد الأمر مجرد دلالة لغوية، بل مشروع دولة عظمى تعيد تعريف نفسها. من واشنطن يصدر قرار بالتخلي عن وهم الدفاع والعودة إلى الحرب، وكأن سبعين عاماً من دماء البشرية يمكن شطبها بممحاة خطابية. لكن الفارق ليس في الاسم وحده. فحين وقع هاري ترومان عام 1947 على قانون الأمن القومي، كان يدرك أن العالم النووي الوليد لا يسمح بالمجازفات، وأن الردع والتحالفات هما صمام الأمان ضد حرب ثالثة قد تفني البشرية. لذلك خرجت «وزارة الدفاع» من رحم وعي إستراتيجي جديد: أن السلام ليس ضعفاً بل أعلى أشكال القوة. اليوم، يطل بيت هيغسيث – الوزير الذي جاء من شاشة التلفزيون لا من ساحات الدبلوماسية أو مراكز القرار العسكري العريقة – متغنياً بروح المحارب لا روح الحليف. يقدم نفسه كمنقذ لجيش فقد وضوحه، فيبشر بعودة «النصر» كغاية نهائية، حتى لو كان الثمن عزلة إستراتيجية. يختزل القوة في الفتك وحده، ويصور الدفاع كضعف، والدبلوماسية كترف، والتحالفات كقيد ثقيل. بلغة متعمدة الصدام يعلن: «الهجوم لا الدفاع، الفتك لا الشرعية». هذه ليست مجرد خطابة حماسية، بل انعكاس لفكر إمبراطوري يريد أن يعيد تعريف العالم من بوابة الحرب. وكأننا أمام عودة إلى زمن الإمبراطوريات التي اعتقدت أن الحديد وحده يصنع المجد، بينما يثبت التاريخ أن المجد الذي يبنى بالسيوف وحدها ينهار عند أول اختبار طويل الأمد. فماذا يعني ذلك في زمن الصين الصاعدة وروسيا المتحفزة؟ وكيف يمكن لقوة عظمى أن تنكفئ عن أدواتها الناعمة – من الدبلوماسية إلى المساعدات – وتختصر نفسها في قبضة عسكرية؟ أليس هذا انتحاراً إستراتيجياً أكثر من كونه استعراضاً للقوة؟ التحالفات التي صنعتها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن ترفاً أخلاقياً، بل عماد الهيمنة نفسها. فما الذي سيبقى إذا ما جرى تهميشها لحساب ضجيج القوة الصلبة؟ هل يضمن البنتاغون وحده أن يمنع الانهيار أم يسرع في استدعائه؟ إن أخطر ما في هذا التحول أنه يخلط بين الكبرياء والتهور، بين الهوية والعدوان. العالم لا ينقصه المزيد من طبول الحرب، بل يحتاج إلى مؤسسات تضبط شهوة القوة وتعيد للسياسة عقلها.