ما إن يُعلَن عن نتائج الثانوية العامة في الأردن، حتى ينقلب المشهد الاجتماعي إلى حالة من الترقب والاضطراب، وتتبدل مشاعر الطلبة وأهاليهم بين الفرح والقلق، بين الانتصار والخوف مما هو قادم. فالثانوية العامة، التي صُورت لسنوات على أنها "معركة المصير"، لا تُغلق أبوابها مع صدور النتائج، بل تفتح أبوابًا أخرى على أسئلة أكبر وأعمق: ماذا بعد؟
يجد الشباب الأردني أنفسهم أمام مفترق طرق، تقف عليه أسئلة كبرى:
هل أختار التخصص الذي أحب، أم الذي يرضي طموح والديّ؟
هل أسلك طريق الجامعة، أم أتجه نحو التعليم المهني؟
هل يُبنى مستقبلي بالمعدل وحده، أم أن هناك ما هو أوسع من أرقام الشهادات؟
قلق متجذر وضغط اجتماعي خانق
هذا القلق المشروع لا ينبع فقط من رهبة المستقبل، بل من ضغط اجتماعي عميق الجذور، يُحمّل الطالب فوق طاقته، ويُقيده بسلاسل المقارنات والعبارات الجاهزة:
"ابن خالك طلع طبيب!"
"هذا التخصص ما إلو شغل!"
"احنا تعبنا عليك مشان تدخل هندسة!"
وما بين هذه الأصوات، يضيع صوت الشاب نفسه، وتضيع إرادته في تشكيل مستقبله بحرية.
ثغرات في التوجيه... وأحلام عالقة في الفراغ
ضعف التوجيه المهني في المدارس الأردنية يُعمّق المشكلة. فالمئات من الطلبة يختارون تخصصاتهم دون دراية حقيقية بطبيعتها أو فرصها المستقبلية، بناءً على ما يُقال لهم لا ما يعرفونه بأنفسهم. والنتيجة: طلاب في مقاعد لا تشبههم، وخريجون بلا أفق.
هذا الواقع يتطلب تدخلًا جادًا من صانعي القرار، لإعادة الاعتبار لدور المرشد التربوي، ولتعزيز ثقافة التوجيه المهني المبكر، قبل أن نصل إلى لحظة "ماذا بعد؟" دون استعداد.
الاقتصاد شريك في القرار
الواقع الاقتصادي المتأزم يلعب دوره هو الآخر. فتكاليف الدراسة الجامعية باتت تثقل كاهل الأسر، ما يجعل بعض القرارات تُتخذ بدافع الكلفة لا الكفاءة. بعض الشباب، وإن كانوا مؤهلين أكاديميًا، يُجبرون على تأجيل الدراسة أو تغيير مسارهم، لا لسبب إلا العجز المالي، وهنا تتقاطع أزمة التوجيه مع أزمة العدالة الاجتماعية.
دعوة لإعادة صياغة المفهوم
من الواجب أن نُعيد تعريف نظرتنا المجتمعية للثانوية العامة، فهي ليست "نقطة النهاية"، بل واحدة من محطات التكوين. علينا أن نعترف بأن النجاح لا يُقاس بمعدل ولا يُختزل بلقب جامعي، بل يُبنى على الشغف، والجدّ، والقدرة على اتخاذ القرار الصحيح.
لن يتحقق الاستقرار النفسي والتعليمي لشبابنا إلا إذا تحرروا من عقدة التوجيهي، وبدأوا ينظرون لحياتهم من منظار أوسع. فكل واحد منهم يملك ما يميزه، وما يحتاجه هو الثقة، والدعم، والفرصة لاكتشاف نفسه.
علينا أن نكون شركاء في صناعة هذا الأمل، لا حراسًا على أبواب الخوف.