تنطلق فعاليات مهرجان زيت الزيتون الأردني الخميس المقبل، حيث يعتقد البعض أن المهرجان مجرّد سوقٍ موسميّ، أو منصّة عرضٍ تُعلَّق عليها منتجاتٌ وتُلتقط بقربها الصور، غافلين عن رحلة عرقٍ تتدلّى من جباه الفلّاحين والفلّاحات الذين يأتون من القرى والبوادي والجبال، يحملون في أكفّهم رائحة الأرض، وفي عيونهم حكايات مواسم لم يشهدها أحد سواهم.
هؤلاء الذين يقطعون الساعات الطويلة من الأطراف والمحافظات البعيدة، لا لأن جهة ما تكفّلت لهم بوسيلة نقل، ولا لأن فندقًا فتح لهم أبوابه، بل لأنهم يؤمنون أن ما صنعته أيديهم يستحق أن يُرى، وأن البركة التي خرجت من بيوتهم تستحق أن تُكرَّم.
اشتروا منهم، فأنتم لا تشترون منتجًا، أنتم تشترون ذاكرة وطن
وحين تمد يدك لتشتري كيلو زعترا، لا تظن أنك تشتري نباتًا مجففًا،أنت تشتري رائحة الجبال في الصباح، ويد الجدة وهي تفرك الأوراق، وملح العرق الذي سال من جبين فلاحة كانت تستيقظ قبل الشمس، وأنت لا تدفع ثمن سِعْر، بل تدفع عرفانًا لهوية الأردن، ولون ترابه، ولصبر أناسٍ لم يتعلّموا من الحياة إلّا أن يقاتلوا ليسترزقون بشرف.
لا تُبخسوا الفلّاحين والفلّاحات أشيائهم، لا تفاصلوا، لا تحرجوا لا تظنّوا أن تخفيض نصف دينار سيغيّر مصيركم، فهو عندهم فاصل بين يومين،يومٌ يقدّر فيه الناس تعبهم، ويومٌ يشعرون فيه بأن الدنيا كلها واقفة مع قلوبهم
وليس أجمل من أن تدفع لهم بطيبة نفس، وكأنك تقول لهم:
«تعبكم مُقدَّر، وصنعة أيديكم ليست رخيصة.»
ولا ترتضوا هداياهم،فحين يمدّ الفلاح يده بعلبة زيتون ويقول لك: «خذها هدية»، فاعلم أنّه يُنقص من قوت بيته ليكرمك،
لا تقبل،أصرّ أن تدفع، فكرامة الفلاح أغلى من المجاملة، ولقمة صغاره ليست مادة لتطييب الخاطر، المهرجان ليس فعالية إنه جملةٌ في ذاكرة الجدّات إنه صوت الجدة وهي تخضّ اللبن في «الشكوة»،وترفع «القشدة» بطقس يشبه الطقوس المقدّسة،
ثم تنفخ السمن الساخن في جرّة فخارية وكأنها تُغلق على سرّ من أسرار الأرض، هذا هو المهرجان الحقيقي؛ وليس في أروقة التنظيم ولا في اللافتات، بل في ذاكرة الناس، في حنيننا لأول بيت، وأول أرض، وأول رغيف خبز خرج من يد أمٍّ ضاقت بها الدنيا فلم تضق يدها بالخير.
وإلى المشاهير والمسؤولين كونوا قدوة، اشتروا، وادفعوا من جيوبكم، لا تتذوّقوا بالمجّان ولا تلتقطوا الصور للظهور، بل قفوا معهم كما يقف الأردني مع أخيه عندما يتعب، إنّ القدوة الحقيقية لا تكون في أضواء الكاميرات، بل في أن يرى الناس مسؤولًا أو مشهوراً يمد يده لشراء كيس زعتر أو عبوة زيت دون أن ينتظر دعوة أو مجاملة.
ففي النهايةالفلاح الأردني ليس بائعًا عابرًا في مهرجان، هو آخر ما تبقى لنا من معنى الأرض،وآخر ما يربطنا بالتراب الذي نعرفه حين تضيع البوصلة،فإذا اشتريتم منهم، اشتروا بمحبة، وادفعوا باحترام، وابتسموا كأنكم تردّون جميل الوطن لا ثمن المنتج.