الأمية تتغير فهل يتغير التعليم؟

لم يعد معنى الأمية اليوم مقصورا على عجز الفرد عن قراءة نص أو كتابة جملة، لقد اتسع ليشمل القدرة على التعامل مع الفضاء الرقمي، وتمييز الحقيقة من الخداع، وفهم المحتوى المتنوع لغويا واعلاميا، ففي عالم يتسارع فيه التحول التكنولوجي يوما بعد يوم، تصبح الأمية رقمية وليست ورقية فقط، واحدة من أخطر القضايا التي تهدد قدرة المجتمعات على التعلم والحضور والمنافسة. وفي الأردن  الذي يعيش بين ضغوط الرقمنة السريعة وارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم، يبدو المشهد أكثر تعقيدا مما يظهر على السطح.

تشير بيانات اليونسكو إلى أن عدد البالغين الذين يفتقرون إلى المهارات الأساسية للقراءة والكتابة بلغ 739 مليونا في عام 2024، وأن 77% منهم يتركزون في منطقتين فقط هما جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء، فيما تشكل النساء ما يقارب ثلثي هذا الرقم الضخم، ولا يقف الأمر عند الأمية الورقية؛ فالعالم اليوم يواجه فجوة رقمية قاسية تظهر في أن 93% من سكان الدول الغنية يستخدمون الإنترنت مقابل 27% في الدول الفقيرة، وفي أن 9% فقط من طلبة العالم يملكون القدرة على التمييز بين الرأي والحقيقة في النصوص الرقمية. وبحسب تقديرات البنك الدولي: يعجز 70% من الأطفال في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل عن قراءة نص بسيط وفهمه بنهاية المرحلة الابتدائية، رغم التحاقهم بالمدرسة.

أما الأردن فقد نجح في تقليص الأمية الورقية إلى أقل من 5%، وهي من أدنى النسب في المنطقة، في وقت يشكل فيه الأطفال ما يقارب 40% من سكان المملكة، وهذه المعطيات تحمل في طياتها فرصة ديموغرافية نادرة، لكنها أيضا تنطوي على تحد جوهري: فامتلاك مجتمع شاب لا يضمن تلقائيا امتلاك مجتمع متعلم رقميا، ما لم تبن سياسات تعليمية تستجيب للتحولات العالمية.

وقد كشفت تجربة التعليم خلال جائحة كورونا حجم الفجوة بين المحافظات وبين الفئات الاجتماعية؛ إذ أن اعتماد التعليم عن بعد لم يذهب باتجاه تعزيز العدالة التعليمية، بل حمل الأسرة الأردنية أعباء مالية إضافية، مع وجود أكثر من 150 منصة تعليمية محلية يعتمد كثير منها على الاشتراكات المدفوعة. ومع الوقت تحولت بعض هذه المنصات إلى سوق موازية لتلقين المحتوى بهدف رفع العلامات لا بناء الفكر كما يلاحظ خبراء تربويون أردنيون، وهو ما زاد من الفجوة بين التعليم بوصفه حقا للجميع والتعليم بوصفه خدمة لمن يملك القدرة على الدفع.

ورغم ذلك لم يكن المشهد الأردني خاليا من المبادرات الواعدة؛ فخلال السنوات الأخيرة أطلقت هيئة الإعلام والتلفزيون الأردنية برامج توعوية لمكافحة التضليل الإعلامي وتعزيز التفكير النقدي لدى الشباب، في خطوة تعكس وعيا رسميا بأن الأمية اليوم لم تعد ورقية فقط، بل إعلامية ورقمية أيضا. ومع عمل وزارة التربية والتعليم على تطوير الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2026–2030 بدعم من اليونسكو، ودراسة إنشاء مختبر وطني لتكنولوجيا التعليم لاختبار الحلول الرقمية قبل تعميمها، يتشكل إطار أولي يمكن البناء عليه لتأسيس منصة تعليمية وطنية تضمن تكافؤ الفرص وتخفف من فوضى المنصات التجارية.

ومن هنا يصبح من الضروري أن تتبنى السياسات التعليمية في الأردن نموذجا جديدا لمحو الأمية يقوم على مفهوم «الأمية المتعددة الأبعاد»، إذ لا تقتصر الجهود على تعليم القراءة والكتابة،وإنما تمتد لتشمل الوعي الإعلامي والكفاءة الرقمية والتمكن اللغوي، والقدرة على التفكير النقدي والتحقق من المعلومات. وتؤكد الأدلة العالمية أن بناء هذه المهارات يبدأ من السنوات الأولى عبر تطبيق ما يعرف بالأسس الستة لتعليم القراءة: اللغة الشفوية والوعي الصوتي والصوتيات المنهجية والطلاقة والفهم القرائي والكتابة؛ وهي عناصر أثبتت نجاحها في البيئات التعليمية التي تبذل جهدا حقيقيا في بناء مهارات متينة لا مجرد اجتياز اختبارات.

ولعل من النماذج الملهمة عالميا تلك التي ربطت التكنولوجيا بالتمكين الإنساني الحقيقي، مثل برنامج «MAGGI Mammies» في ساحل العاج، الذي وفر للنساء أدوات رقمية بسيطة لمواصلة التعلم وتعزيز حضورهن الاقتصادي والاجتماعي، ويمكن للأردن بما يملكه من بنية تحتية رقمية متنامية، أن يطور نموذجا مشابها مخصصا للأمهات وربات البيوت واللاجئات، لتقليص فجوة الأمية الجديدة داخل الفئات الأكثر هشاشة.

إن الأمية اليوم قضية عدالة اجتماعية بامتياز، وقضية أمن معرفي في عالم تختلط فيه المعلومة بالشائعة، والصحيح بالمضلل، والخبر بالرأي. وما يحتاجه الأردن ليس فقط تطوير مناهج أو إنشاء منصات رقمية، بل تبني رؤية تعليمية تعيد الإنسان إلى مركز العملية، وتمنحه القدرة على القراءة العميقة والفهم والتمحيص والانخراط في العالم بثقة. وكما قالت أودري أزولاي، المديرة العامة لليونسكو: «القراءة والكتابة وحدهما لم تعودا كافيتين  على الدول أن تدمج محو الأمية الإعلامية والمعلوماتية في مناهجها المدرسية». هذه الرسالة في جوهرها ليست دعوة للتغيير فحسب، لكنها خارطة طريق لمستقبل تعليمي أكثر عدالة وفاعلية في الأردن.