الدكتور واصل المشاقبة
في سياق متابعة تطوّر الضمان الاجتماعي، تبرز الحاجة الى تحليل المؤشرات الرقمية بعيدًا عن الانطباعات العامة او الخطاب الرسمي، بهدف فهم ديناميكيات النظام التقاعدي التابع لمؤسسة الضمان وتقييم مساراته المالية والديموغرافية. فالارقام المتاحة حتى أيلول 2025 لا تعكس فقط حجم التوسع في مظلة الحماية، بل تكشف ايضاً عن انماط نمو تستدعي التوقف عندها، خصوصاً في ملف التقاعد المبكر وتوازن الايرادات والنفقات. تعتمد هذه القراءة على بعض البيانات منشورة والموثوقة، وتقدم تحليلاً موضوعياً يسلّط الضوء على المتغيرات الفعلية ويكشف التحديات القائمة، بعيداً عن المبالغات أو التطمينات الشكلية. وسيتناول هذا التحليل ثلاثة محاور رئيسية: التطور المؤسسي والتركيبة السكانية للمشتركين، الأداء المالي واتجاهات الاستدامة، ثم الإصلاحات المطلوبة لضمان استقرار النظام على المدى الطويل.
في ضوء المؤشرات المالية والديموغرافية المتاحة، يتضح ان مؤسسة الضمان الاجتماعي تقف عند مفترق حاسم بين متانة المركز المالي من جهة، وتحديات العدالة التوزيعية والاستدامة الهيكلية من جهة أخرى. فبينما تُظهر البيانات ان الايرادات التأمينية لا تزال تفوق النفقات التأمينية والإدارية مجتمعة حتى الربع الثالث من هذا العام ( 2025)، وان المؤسسة لم تلجأ الى استخدام اي موارد مالية من عوائد الاستثمار منذ تأسيسها، فان هذه الصورة الإيجابية لا تُخفي التحديات المتراكمة التي تهدد التوازن طويل الأجل للنظام.
التوسع الكمي وتنوع قاعدة المشتركين
تشير البيانات الصادرة عن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي حتى أيلول 2025 إلى استمرار توسّع مظلة الحماية الاجتماعية، حيث بلغ عدد المنتفعين حتى شهر أيلول 2025 (379) ألف منتفع، كما بلغ عدد المشتركين نحو 1.6مليون مشترك. يُلاحظ تنوعاً لافتاً في هذه القاعدة، إذ تشمل حوالي 108 آلاف مشترك اختياري، و230 ألف من غير الاردنيين، مما يعكس تطوراً في قدرة النظام على استيعاب فئات جديدة من القوى العاملة. عند الحديث عن مشاركة المرأة، تُظهر البيانات فجوة واضحة بين تحسّن نسبة الاشتراك وضعف الاستفادة من المعاشات التقاعدية. ففي عام 2025، بلغ عدد النساء المشتركات نحو 297 ألف مشتركة تمثل 27 ٪ من اجمالي المشتركين ، مقارنة بـ250 ألف مشتركة (25 ٪ )في عام 2015. بيد أن هذا التحسن يتضاءل عند مقارنة عدد المتقاعدات، اللواتي بلغ عددهن 25 ألف متقاعدة (6,7 ٪ من إجمالي المتقاعدين) مقابل 15 ألف متقاعدة (11 ٪ ) قبل عقد من الزمن. تكمن الإشكالية في ان أكثر من نصف المتقاعدات حصلن على تقاعد مبكر، مما يُظهر استمرار تأثير الأنماط الاجتماعية والمهنية التي تحدّ من استمرارية المرأة في سوق العمل الرسمي.
اتساع القاعدة المؤسسية وتحديات الالتزام
يشهد النظام توسعاً مؤسسياً ملموساً، حيث ارتفع عدد المنشآت الخاضعة لاحكام القانون من حوالي 44 ألف منشأة في عام 2015 إلى نحو 74 ألف منشأة في عام 2025، بنمو نسبته 67 ٪ . الا ان هذا النمو الكمي لا يعكس بالضرورة مستوى الالتزام الكامل بدفع الاشتراكات او جودة الوظائف، وهي عوامل حاسمة في استقرار الايرادات.
تحديات الاستدامة المالية: الفاتورة وفجوة التوزيع
وفي السنوات الثلاث الأخيرة (2022–2024)، بلغ الفائض السنوي نحو 1.2مليار دينار، فيما يُتوقع ان ينخفض الفائض لعام 2025 الى حوالي 220 مليون دينار، ما يعكس أثر تراكم التحديات على الموارد التأمينية رغم الاستقرار الكمي للمشتركين. يُتوقع ان تصل الفاتورة الشهرية للمستحقات التقاعدية إلى حوالي 183 مليون دينار في أيلول 2025، مقابل إيرادات شهرية من اشتراكات المشتركين تُقدَّر بحوالي 209ملايين دينار، وفق افتراض نمو سنوي متوسط 5 ٪ من بيانات 2024. هذا التوقع يفترض حدوث تضخم طبيعي وتوسع في قاعدة المشتركين، لكنه يظل رهينًا بتطور عدد المتقاعدين وأداء سوق العمل. اذا صح هذا الافتراض، فان الفائض الشهري المتوقع سيكون بحوالي 26مليون دينار، ما يمنح سيولة إضافية، ولكنه قد يتراجع بسرعة اذا تجاوزت مصاريف التقاعد النمو المفترض.
وتظل الفجوة التوزيعية قائمة بحدة؛ اذ لا يزال 26 متقاعدًا فقط يتقاضون معاشات تفوق 10 آلاف دينار، فيما سُجّل اعلى راتب تقاعدي في تاريخ الضمان عند 19 ألف دينار شهريًا. ومن جهة أخرى، تشير التقديرات إلى أن نحو 91 ألف متقاعد، أي ما يقارب ربع المتقاعدين، يقعون ضمن شريحة الحد الأدنى للأجور، في حين أن 9.2 ٪ يتقاضون أقل من 200 دينار، مقابل 9,4 ٪ يتقاضون أكثر من 1000 دينار شهريًا. هذا التفاوت يعكس خللاً هيكليًا في معادلات الاحتساب، ويستدعي مراجعة اليات ربط المنافع بعدالة مع سنوات الخدمة والأجر الخاضع للاشتراك. هذا التباين في توزيع المنافع ينعكس مباشرة على كفاءة النظام في موازنة العدالة التأمينية مع الاستدامة المالية.
الكفاءة النسبية للمنافع، الإسناد الديموغرافي والتحول المالي
من حيث الكفاءة التأمينية، يُظهر النظام توازناً نسبياً؛ إذ يبلغ متوسط الراتب الشهري للمساهمين نحو 472 ديناراً، بينما يصل متوسط الاستحقاق التقاعدي الى 440 ديناراً، اي ما يعادل 93 ٪ من متوسط الأجر ويفوق الحد الأدنى للأجور بنسبة 152 ٪ . هذه المؤشرات تعكس عدالة نسبية في توزيع المنافع، لكنها تطرح تساؤلات حول قدرة النظام على الحفاظ على هذا المستوى في ظل التحولات الديموغرافية، ولا سيما تضاعف أعداد كبار السن.
تُظهر البيانات الاكتوارية ان نسبة الإسناد الديموغرافي في مؤسسة الضمان الاجتماعي الأردنية، اي عدد المشتركين الفاعلين مقابل كل متقاعد قد تراجعت من 7,6 مشترك في عام 2015 إلى نحو 4.3مشترك في عام 2025، بانخفاض يقارب 43 ٪ . هذا التراجع، وان بدا رقمياً قابلاً للتفسير ضمن نموذج خطي، إلا أن استشراف المستقبل يتطلب الحذر من تبني فرضيات تبسيطية، لا سيما في ظل تعقيدات ديموغرافية واقتصادية متغيرة.
وفقاً للنماذج الاقتصادية القياسية، فان استمرار التراجع في نسبة الإسناد الديموغرافي بوتيرة ثابتة قد يؤدي الى وصول عدد المشتركين الفاعلين مقابل كل متقاعد إلى نسبة 1:1 بحلول عام 2035، وهو الحد الأدنى المقبول نظرياً قبل دخول النظام في مرحلة العجز التام. غير ان هذا السيناريو يفترض ثباتاً في المتغيرات، وهو ما لا يتسق مع الواقع الديناميكي لسوق العمل، والهجرة، والتحولات في أنماط التقاعد والاشتراك. اما في حال تسارع وتيرة التراجع نتيجة غياب التدخلات الإصلاحية أو تفاقم العوامل الديموغرافية السلبية، فإن الوصول إلى هذه النسبة قد يتحقق في وقت أقرب مما هو متوقع، وربما قبل عام 2030، ما لم تُعالج الاختلالات الهيكلية بصورة عاجلة ومنهجية. وفي المقابل، فإن تبني سياسات تصحيحية فعالة قد يُبطئ هذا التراجع، ويُعيد ضبط المسار نحو نسب إسناد أكثر استدامة.
النماذج الاقتصادية القياسية تشير أيضا الى ان نقطة التساوي بين الإيرادات التأمينية والنفقات الجارية، في حال عدم اتخاذ إجراءات تصحيحية، قد تقع في عام 2030. وعليه، فإن مراجعة معادلات الاشتراك والاستحقاق، وتوسيع قاعدة المشتركين، وتعزيز كفاءة الاستثمار، لم تعد خيارات فنية بل ضرورة وطنية لضمان الاستدامة المالية والعدالة بين الأجيال.
التقاعد المبكر: النمو والتداعيات على الاستدامة
يشكّل التقاعد المبكر أحد أبرز أنماط النمو التي تستدعي التحليل، حيث يُلاحظ ان المتقاعدين مبكراً يشكّلون أكثر من 197 ألف فرد، مقارنة بـ110 آلاف في عام 2015، بمعدل نمو سنوي مركب بلغ 6.2 ٪ ، وهو اعلى من معدل نمو إجمالي المتقاعدين (6,1 ٪ ). وتحافظ هذه الفئة على وزنها النسبي الثابت تقريباً (52.6 ٪ من اجمالي المتقاعدين)، مما يؤكد استمرارها كخيار رئيسي يزيد الضغوط على موارد النظام. بلغ عدد الإحالات إلى التقاعد المبكر نحو 22.5ألف حالة خلال عام 2024، منها 15 ألف حالة في القطاع العام، ما يوضح ان اكثر من ثلثي حالات التقاعد المبكر تتركز في المؤسسات الحكومية، ويضاعف الضغوط المالية على النظام ويستدعي مراجعة سياسات التقاعد والاشتراكات.
البطالة وتحولات سوق العمل: أثرها على الاستدامة المالية للضمان الاجتماعي
تُعد البطالة من العوامل الرئيسة التي تؤثر مباشرة على قاعدة الاشتراك ونمو الايرادات التأمينية للضمان الاجتماعي، بما ينعكس على الكفاءة النسبية للمنافع، نسبة الاسناد الديموغرافي، والتحول المالي للنظام. في الربع الأول من 2025، بلغ معدل البطالة نحو 21،3 ٪ ، فيما سجل معدل مشاركة القوى العاملة 32،9 ٪ ، ما يشير الى أن شريحة واسعة من السكان في سن العمل خارج منظومة التغطية التأمينية. هذه المعطيات لا تُظهر فقط تحدياً للاقتصاد الكلي، بل تشكل ضغطاً مباشراً على قدرة المؤسسة على تمويل الاستحقاقات بشكل مستدام، وتضعف مؤشراته الاكتوارية.
تحليل الحساسية(sensitivity analysis) يظهر ان انخفاض معدل البطالة بنسبة 1 ٪ قدّ يؤدي الى انضمام نحو 35 ألف شخص اضافي الى سوق العمل، ومن المتوقع ان يسجّل 80 ٪ منهم في نظام الضمان الاجتماعي، اي ما يعادل حوالي 38 ألف مشترك جديد. هذا يزيد الايرادات السنوية للمؤسسة بحوالي 33.6 مليون دينار، ويعزز نسبة الإسناد الديموغرافي من 4،3 إلى نحو 4،5 مشترك لكل متقاعد. هذه الزيادة تؤخر الضغوط التمويلية على الصندوق وتحسن الكفاءة النسبية للمنافع، كما تقلل الحاجة الى الاعتماد على الموارد الاستثمارية لسد الفجوة المالية. على المستوى المستقبلي، يشير هذا التحسن الى تأخير سنة التساوي بين الإيرادات والنفقات من عام 2030 إلى ما بعد ذلك، ويؤخر بلوغ الحد الأدنى للاشتراك مقابل كل متقاعد بعد عام 2035.
الخاتمة: نحو إصلاح هيكلي واستدامة مالية
تُظهر المؤشرات الرقمية ان منظومة الضمان الاجتماعي تقف عند مفترق طرق بين التوسع الكمي والتحديات الهيكلية. فرغم النمو في اعداد المشتركين والمنشآت، الا ان التوازن المالي والديموغرافي يواجه ضغوطاً متزايدة بفعل ارتفاع فاتورة التقاعد، واتساع نطاق التقاعد المبكر، وتراجع نسبة الإسناد. لذلك، تبرز الحاجة الى مراجعة شاملة لا تقتصر على الجوانب التشريعية، بل تمتد الى سياسات سوق العمل وادارة الاستثمار. رفع كفاءة استثمار أموال الضمان يشكل ركيزة أساسية لدعم الاستقرار المالي.
التحديات الراهنة تتطلب بلورة إصلاحات هيكلية متكاملة، تبدأ بإعادة النظر في نسب الاشتراك بين العامل وصاحب العمل بما يضمن عدالة التوزيع وكفاءة التمويل، الى جانب مراجعة شروط الاستحقاق للتقاعد المبكر بما يتناسب مع التحولات الديموغرافية. توسيع مظلة الاشتراك لتشمل العاملين في القطاع غير المنظم والمهن الحرة من خلال نماذج مرنة تتناسب مع طبيعة دخلهم يُعد خطوة ضرورية لتعزيز قاعدة التمويل التأميني. تحسين نوعية التشغيل عبر ربط التعليم المهني بسوق العمل وتشجيع الوظائف ذات القيمة المضافة يُسهم في الحد من توسع العمالة منخفضة الأجر والمهارات ويعزز مناعة النظام أمام التقلبات الاقتصادية.
وعلى صعيد الشفافية، فان نشر نتائج الدراسات الاكتوارية بشكل دوري، واشراك المجتمع المهني والاقتصادي في تقييم السيناريوهات وتقديم البدائل، يعدان من ركائز الإصلاح المؤسسي. وتكمن احدى الاولويات الأساسية في تعزيز القدرات الوطنية والمؤسسية لاجراء الدراسات الاكتوارية محليًا، بما يقلل الاعتماد على الخبرات الأجنبية، ويمكن المؤسسات الأردنية من انتاج المعرفة الوطنية واتخاذ قرارات سياساتية دقيقة وملائمة للخصوصية الوطنية.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال جوهري: إذا كانت الدراسة الاكتوارية قد أُنجزت على يد خبراء دوليين وبتكلفة مالية مرتفعة، فلماذا لم تتخذ قرارات فورية لتبني نتائجها وتوصياتها؟.
إعادة هيكلة الاستثمار التأميني، من خلال تنويع ادوات الاستثمار وربطها بالأهداف الاكتوارية، يُسهم في ضمان عوائد مستدامة تُخفف من الضغط على الاشتراكات وتُعزز الاستقرار المالي طويل الأجل. استدامة الضمان الاجتماعي لا تُقاس فقط بقدرة المؤسسة على تحقيق فوائض مالية، بل بقدرتها على حماية الفئات الأضعف، وضمان التوازن بين الأجيال، وتطوير أدوات اكتوارية وطنية مستقلة قادرة على إنتاج المعرفة.
غير أن الواقع يظهر إخفاقا في معالجة هذه التحديات الحيوية. التأخير في اتخاذ الإصلاحات الجذرية، عدم مراجعة سياسات التقاعد المبكر، وعدم تعزيز قاعدة التمويل من خلال الحد من البطالة وتوسيع قاعدة الاشتراك، ويضع النظام المالي للضمان الاجتماعي تحت ضغط متصاعد.
ويبرز الحاجة الى مراجعة جذرية في السياسات التأمينية لضمان التوازن طويل الأمد.
كما اشار جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله ورعاه إلى أن «آن الأوان لأنْ نتعامل مع موضوعِ التقاعدِ بالاهتمامِ الذي يستحق؛ فالمتقاعدونَ أدّوا واجباتِهم تجاه الوطن وعلينا أن نضمن الحفاظَ على حقوقهم ومدخراتهم التقاعدية»، ما يؤكد على وجوب تعزيز المسؤولية الوطنية وإصلاح منظومة الضمان الاجتماعي بما يحقق الاستدامة والعدالة بين الأجيال، ويضع حماية المدخرات والمستحقات التأمينية كأولوية وطنية ملحة.
في المحصلة، يحتاج الضمان الاجتماعي إلى إصلاحات جذرية وحازمة، لا تكتفي بتحقيق الفائض، بل تُعيد تعريف مفهوم الحماية الاجتماعية، وتعزز العدالة، وتحصّن النظام من التآكل التدريجي في بنيته المالية والإدارية، لضمان استدامته على المدى الطويل وحماية الأجيال المقبلة من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية، بما يتوافق مع توجيهات جلالة سيد البلاد السامية.