في بلد يعاني من شحّ المياه ويعتمد على كل قطرة كأنها حياة، نكتشف أن عدادات المياه التي وُضعت لتكون ميزاناً للعدالة تحولت إلى أداة استنزاف لجيوب الناس. التصريحات الرسمية الأخيرة كانت كفيلة بإشعال الغضب الشعبي: عدادات المياه لا تحتسب فقط ما يمر من ماء، بل حتى الهواء الذي يندفع في الشبكات، فتظهره استهلاكاً فعلياً على فاتورة المواطن.
أي منطق هذا؟ وأي عدالة هذه التي تجعل المواطن يدفع ثمن ما لم يستهلك؟!
هنا تتفجر الأسئلة التي لا بد من إجابات صريحة عليها:
هل هذه العدادات خضعت لفحص دقيق من قبل مؤسسة المواصفات والمقاييس قبل تركيبها وتعميمها على البيوت؟
إن كانت مطابقة للمواصفات، فكيف سمحت المؤسسة بتمريرها وهي تحسب الهواء وكأنه ماء؟
وإن لم تكن مطابقة، فمن المسؤول عن إدخالها وتوزيعها، ومن سيحاسب على الكارثة المالية التي تكبدها المواطنون عبر السنوات؟
الأخطر من ذلك: من يعيد للمواطن أمواله التي دفعت في غير حق؟ أموال بالملايين جُمعت من الناس دون وجه حق، نتيجة عدادات غير دقيقة أو شبكات مترهلة تسمح بتمرير الهواء. هل نكتفي بالتصريحات أم أن هناك نية لتعويض المتضررين؟ أم أن المواطن سيظل الضحية الدائمة لضعف الإدارة وغياب الرقابة؟
إن الحديث عن شحّ المياه لا يعطي أي مؤسسة حق استغلال جيب المواطن. فالأردني الذي يكدّ ويعمل ليل نهار ليوفر قوت يومه لا يجوز أن يُستنزف بدفع ثمن فشل الإدارات وتقصير المؤسسات. لا المواطن مسؤول عن تهالك الشبكات، ولا عن سوء التخطيط، ولا عن غياب الصيانة.
من غير المقبول أن نُلقى اللوم دوماً على الناس، وكأنهم شركاء في الخطأ، بينما تُترك المؤسسات بلا مساءلة. العدالة تقتضي أن تتحمل الجهات الرسمية مسؤوليتها الكاملة، وأن يُعلن للرأي العام:
نتائج فحص كل العدادات، ومدى مطابقتها للمواصفات العالمية.
خطة إصلاح عاجلة للشبكات التي تسمح بتمرير الهواء.
آلية واضحة لتعويض المواطنين عن الأموال التي دفعت ظلماً على مر السنوات.
المياه ليست سلعة للمساومة، بل حق أساسي من حقوق الإنسان. والاعتداء على هذا الحق عبر عدادات معيبة أو سياسات مرتجلة هو ظلم فادح.
لقد آن الأوان أن يُرفع الصوت عالياً: لا يجوز أن يدفع المواطن ثمن الهواء، ولا أن يُحمّل فاتورة الفشل الإداري.
المطلوب اليوم ليس بيانات مطمئنة ولا وعوداً مؤجلة، بل قرارات عملية جريئة تعيد الثقة للمواطن وتحميه من الاستنزاف. فإن كان المواطن هو عماد الدولة، فلا بد أن تكون الدولة درعاً يحميه لا سيفاً يرهقه.
كفى استهتاراً بحقوق الناس، وكفى عبثاً بملف المياه. نريد شفافية، نريد محاسبة، ونريد عدالة… لا بيعاً للهواء ولا استنزافاً للكرامة.