الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به الأردن اليوم أوجد لهفة عند الأردنيين صوب مخرج ينقذهم من حالة الضنك التي يعيشونها إلى حالة التعافي .. فقد تعبوا من شعور اليأس وانطفاء الأمل .. فظن بعضهم أن لاخلاص لهم من حالة البؤس هذه إلا بالمظاهرات والاعتصامات .. وحين فعلوا لم يخطر ببالهم أن يؤذوا وطنهم، فهم يفدونه بالغالي والرخيص .. فهاج غبار كثيف ..
ليخرج من بين الغبار مخلوقات متوحشة قبيحة، بددت أحلامهم .. وسعت في تحطيم أي أمل في مستقبلهم .. لتتراءى لهم أبيات الكفيف عبد الله البردوني وهو يقول:
تمتصني أمواج هذا الليل في شره صموت ...
وتعيد ما بدأت، وتنوي أن تفوت ولا تفوت...
وتقول لي مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت..
من ذا هنا غير الأسامي الصفر تصرخ في خفوت...
غير انهيار الآدمية وارتفاع البنكنوت.
فرأى الأردني العاقل انهيار الآدمية حرفيا .. وصعود البنكنوت في أقذر صورها.
العقل والقلب اليوم استيقنا أن ما جرى في الأردن محض فتنة..
والتعبير القرآني واضح وصريح هنا:
"وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ".
"وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ".
قد يظن ظان أن الفتنة مقيدة بالحرب والقتل .. وهذا مفهوم قاصر .. فحين نفتن الذهب والفضة بتعريضهما للنار نتخلص من شوائبهما، ومن هنا جاء هذا المصطلح «الفتنة».
حين يعرض الإنسان نفسه لامتحان قاس، أو بمعنى أصح ظروف قاهرة أو حتى شبهات قاصمة، فيدخل في حالة من الاضطراب يفقد فيها الأمل واليقين إذا لم يستطع الخروج منها .. فقد أوقع نفسه في الفتنة.
وكل من سعى وشارك ولو بكلمة لإيصال الإردني إلى هذه الحالة فهو [فتان] ..
نعم ،، حتى وإن أظهر الحرص والشفقة والخوف على المواطن الأردني .. لأن العبرة بالمآلات ..
والله قد توعد الفتانين فقال: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ".
بأي منطق نثير الأمواج العاتية باسم الوصول إلى شواطيء أحلام الحرية ثم ندعي المفاجأة إن خرج من بين تلاطماتها وحوش ضارية ترى أن القتل هو السبيل إلى الحرية ( الجنة).
نعم .. نوع من أنواع الفتانين الذين تعج بهم بحور الفتن من يقال لهم: التكفيريون ! الغلاة ..
وهنا يحضرني كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين - أمدّه الله بعونِه ونصرِه- في كتابِهِ «فُرصتنا الأخيرة» إذ يقول:
«... هؤلاءِ التَّكفِيرُيُّون لا تَقومُ أعمالُهُم وتَفسيراتُهُم إلّا على الجَهْلِ، والبَغْضاءِ، والفَهْمِ الخاطِئ لِمَفهومِ الشَّهادةِ النَّبيلِ؛ لِكَي يَنشُروا عَقيدتَهُم ضارِبِينَ عُرْضَ الحائطِ بأكثرَ مِن ألفِ سَنَةٍ مِن العُلومِ والفِقْهِ الإسلاميِّ القَويم، وذلك بذَريعةِ ما يَظُنُّونَ -مُخطِئِين- أنَّهُ النَّهْجُ الأصيلُ الذي كان مُتَّبَعاً -في القَرْنِ السَّابِعِ- في الجَزيرةِ العربيَّةِ-»
ثم عاد جلالته فقال:
« بالنِّسبةِ إلى هؤلاءِ التَّكفيريِّين تُعَدُّ الحربُ ضدَّ مَن يَعتبِرُونَهُم أعداءً: حَرْباً مَفتوحةً، لا ضوابطَ فيها، وهُم لا يَأْبَهُونَ بالتَّعاليمِ الإسلاميَّةِ التي نَصَّ عليها القُرآنُ الكريمُ، والحديثُ الشَّريفُ...».
ثم كان أن أطلق عليهم جلالته وصفا آخر في خطابه في الجلسة العامة للدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة وهو ( الخوارج ) !
( تكفيريون ) غلاة من جهة المعتقد ،، ( خوارج ) من جهة العمل ،،
فمن خفيت علينا سريرته ( عقيدته ) ،، فضحه عندنا صنيعه ( خروجه ) ،، يقطع السبل، ويروع الآمنين، ويقتل المعصومين، ويخلق بيئة لكل متآمر على الدولة وأبنائها.
ومن هؤلاء الخوارج صنف يقال لهم: القعدية..
لم يباشروا تلك الأفعال بأيديهم، فقعدوا، لكن ألسنتهم حثت وحضت وأيدت، فكان لسان هؤلاء أكثر فتكا من سيوف أولئك!
وأعود إلى كلام جلالة الملك حين قال في خطابه السابق:" يعتقد معظم الناس أنه لا علاقة لهم بخطاب الكراهية الذي يحمله المتطرفون، لكن عالمنا عرضة للتهديد عندما يسيطر العنف والخوف والغضب على خطابنا، سواء في المدارس أو الخطب الدينية أو حتى في علاقاتنا الدولية".
أظنها سحابة سوداء مرت في سماء الأردن في الأيام القليلة الماضية تستحق منا أن نستفيد منها في مستقبل الأيام ..
حمى الله الأردن ملكا وشعبا ورحم الله أبناء الأردن الذين قضوا نحبهم في هذه الفتنة ..وحشرهم ربي في زمرة الشهداء.