تأملات عربية في التجربة الصينية (5) "إنها تتغير بسرعة لامتناهية ولكنْ داخل التقاليد"

 
بقلم/ صلاح أبوزيد

الذي يتأمل مسيرة النهضة الصينية منذ أكتوبر 1949م حتى أكتوبر 2020م، وقفزتها الكبرى التي تحققت منذ انطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978م، يجد أنها لم تتخلَّ لحظة عن تراثها الحضاري والثقافي بدعوى التقدم واللحاق بالغرب المتطور، بل وظفته في صياغة نموذجها التنموي الخاص ورسم ملامحه المميزة..


ومن يتابع الإعلام الصيني يجده يردد كثيراً عبارة "الخصائص الصينية"، فهناك  "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" و"الدبلوماسية ذات الخصائص الصينية"، وغيرهما من المصطلحات الشائعة.


ومن يستمع إلى خطابات الرئيس شي جين بينغ أو يقرأها يراه يستشهد بمقولة أو حكمة أو بيت شعر من الماضي، وكثيرٌ من عباراته ترددها وسائل التواصل الاجتماعي في الصين، مثل مقولته الشهيرة في الحفاظ على البيئة: "الجبال الخضراء والمياه الصافية هي أصول لا تقدر بثمن"..
وعندما أعلنت وكالة الفضاء الصينية، في إبريل الماضي، اسم أولى بعثاتها لاستكشاف المريخ تزامناً مع يوم الفضاء السنوي في الصين والذكرى الخمسين لإطلاق أول أقمارها الصناعية، قالت إنها ستحمل اسم تيان ون-1.
واسم تيان ون أو "أسئلة للسماء" مستوحىً من قصيدة كتبها الشاعر الصيني تشو يوان الذي عاش قبل ألفي عام، وتطرح تساؤلات عن النجوم وغيرها من الأجرام السماوية.
وهناك ورشة لوبان، وهو مشروع طموح للتدريب المهني أطلقته الصين في مصر وجيبوتي والعديد من الدول الإفريقية والآسيوية والأوروبية، والاسم يحمل دلالة حضارية لها معناها، حيث لوبان هذا الذي عاش قبل 2500 عام يعد أحد أهم آباء العمارة الصينية بما ابتكره من آلات ومعدات لازمة لبناء المنازل والمعابد وتصنيع الأخشاب.


والكثيرون منا يعرفون ما يسمى "دبلوماسية الباندا"، ذلك الحيوان الطيب الظريف الذي يقضي يومه في أكل سيقان نبات الخيزران الخضراء، وحولته الصين إلى رمز للصداقة وسفير للمحبة بينها وبين دول العالم، فأهدته إلى الاتحاد السوفيتي عام 1957م، وقدمت زوجين إلى الولايات المتحدة احتفالاً بزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون وزوجته إليها عام 1972م.


وفي زيارته إلى روسيا في يونيو عام 2019م أهدى الرئيس شي جين بينغ زوجين من الباندا لحديقة حيوان موسكو كرمز للثقة والصداقة والاحترام والتعاون بين البلدين.
ولم يكن غريباً أن نقرأ في الأخبار أن أحد أساتذة الطهي أنشأ جامعة لمعكرونة لحم البقر المعروفة باسم "لا ميان"، كواحدة من أشهر الأكلات الصينية، حيث يصنع الطهاة هذه المكرونة الطويلة المسحوبة على أيديهم في المطاعم وأمام أعين الزبائن، ومن الطريف أن الكثيرين من الأجانب التحقوا بها لتعلم هذه الصنعة التراثية اللذيذة.


والأمثلة أكثرُ من أن تحصى على اغتراف النهضة الصينية المعاصرة من نبع الحضارة الماضية ممتدة التأثير، ما يجعلها راسخة متينة الجذور، والذي يزور الصين يشاهد ناطحات السحاب وإلى جانبها وحولها المعابد والقصور والحدائق التراثية والبوابات التاريخية، ويرى كيف تتجاور وتتحاور وتتعايش أحدث وسائل التكنولوجيا مع مفردات الماضي في محبة وانسجام.


وفي الأعياد والمناسبات الاجتماعية مثل عيد الربيع وعيد منتصف الخريف الذي تحتفل به الصين هذه الأيام، تظهر الموروثات القديمة بجلاء، سواء في المأكولات أو الملابس أو الحرص على العودة إلى مسقط الرأس للمِّ شمل الأسرة والاجتماع مع الأهل والأحباب.


والصين كما يقولون "تتغير بسرعة لامتناهية ولكنْ داخل التقاليد"، وفكرها سلسلة متصلة من كونفوشيوس إلى ماو تسي تونغ إلى دينغ شياو بينغ إلى شي جين بينغ، تحمل القيم والمباديء نفسها وتعمل على ترقيتها والمزج بينها وبين الواقع.


وحين أطلقوا على معاهد وفصول تعليم اللغة الصينية في الخارج اسم الحكيم كونفوشيوس، لم يكن هذا من فراغ، فالرجل لا تزال تعاليمه سارية في المجتمع الصيني من حيث احترام  كبار السن والتمسك بالعائلة والصدق والمحبة والحكمة والسلوك المهذب وطاعة الحكام  والتعاون واحترام الغرباء القادمين من الخارج ورعايتهم، واعتبار الأخلاق هي محور الحياة وركيزتها الأساسية، ولم تؤثر أفكاره في الصين فحسب، بل امتد أثره إلى دول كثيرة في شرق آسيا.


والرئيس شي، وهو وريث هذا التراث الثري المفعم بالحيوية، قال في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مؤخراً، إن المنافسة بين الدول يتعين أن تكون إيجابية وصحية بطبيعتها، ويجب ألا تنتهك المعايير الأخلاقية.