كان غير شكل الزيتون

كان صباحاً بارداً وأنا أعبر الطريق بين إربد وعمّان، مذياع السيارة ينساب بصوت فيروز، يطوف في فضاء تشرين كما تطوف رائحة الزيت بين المعاصر، تغنّي «كان غير شكل الزيتون، كان غير شكل الليمون».
وانتابني شعور غريب بأن زياد الرحباني، حين كتب هذه الكلمات في أواخر السبعينات، لم يكن يصف زمناً مضى فحسب، بل كان ينذر بزمنٍ سيأتي، زمنٍ سيجفّ فيه الثمر عن الطرقات، وتغيب فيه روح المواسم كما غابت الظلال عن البيّارات.
تذكّرتُ مواسم الطفولة، حين كان قطف الزيتون عيداً فلاحياً له طقوسه، وكان البيت يستنفر كله، والجيران يتناوبون على «الفزعة» وكأنّ الشجرة تبارك مَن يمدّ إليها يده، كان أبي و أمي يوقظوننا فجراً، ويهيئون لنا طعاما بزيت السنين الماضية، ويقولون حي على قطاف البركة،كنا نتهرّب ونتململ بكل أعذار الطفولة الممكنة، لم نكن نعلم أننا نهرب من لحظة ستصير لاحقاً حنيناً موجعاً.
في تلك الأيام، لم يكن القطاف مجرد عملٍ زراعي، بل كان طقساً من طقوس الانتماء، كانت الأرض تردّ التحية لمن يلمسها، والزيتون يُثمر كأنه يعرف أسماء من غرسوه بأيديهم، أما اليوم فالشجرة وحيدة، والفزعة صارت «عمالة موسمية»، والحقول صامتة، لم يعد أحد يعلّق غصن الزيتون على أبواب البيوت، ولا أحد ينتظر الموسم، صار الزيت يُشترى كما تُشترى أي سلعة، بلا ذاكرة ولا وجع ولا رائحة تعب.
وتتابع فيروز «حتى إنت يا حبيبي مش كاين هيك تكون، وياضيعانون راحوا، شو ما صار لكن راحوا»
كأنها تغنّي عنّا، نحن الذين أضعنا الطريق إلى الجذور، راحوا الذين كانوا يعرفون أن الزيتونة لا تُقطف وحدها، وأنها تحتاج إلى ضحك الأطفال وصخب النساء ونداءات الأمهات التي تُخلّد أكثر من أي أناشيد.
اليوم حين تمرّ على الطرقات، لا ترى سوى بقايا مواسم متعبة، لا رائحة عصرٍ في المعاصر، ولا صدى أغنية في الحقول، تتأمل الأشجار فتشعر أنها تشيخ بصمتٍ، كأنها هي أيضاً تتساءل
أين الذين كانوا يأتون كل خريف؟ أين أياديهم التي كانت تلمسني بحب؟
أدرك الآن أن الزيتون لم يتغيّر وحده، نحن الذين تغيّرنا، نضب الزيت في أرواحنا قبل أن ينضب في الحقول، وصرنا نبحث عن البركة في زجاجةٍ أنيقة، بينما البركة الحقيقية كانت في تلك الخدوش الصغيرة على الأكفّ، وفي فنجان الشاي تحت ظلّ الزيتونة بعد تعب يومٍ طويل.
نعم يا فيروز
كان غير شكل الزيتون، وكان غير شكل الليمون،
حتى نحن، لم نعد كما كنّا، ومش سامع غنية راحوا.