افتتاح مدينة العقبة الرقمية.. نقطة انطلاق أردنية نحو المستقبل الرقمي

افتتح سمو الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، ولي العهد، أمس الثلاثاء مدينة العقبة الرقمية، التي تعد أول مشروع رقمي متكامل في المملكة الأردنية الهاشمية، وأحد أكبر مراكز البيانات والبنية التحتية الرقمية في المنطقة.
رؤية: مشروع يضع الأردن في قلب الثورة الرقمية
من منظور علمي وعملي، أرى بوصفي باحثا ومختصا في الذكاء الاصطناعي وقائدا لفرق تطوير الأنظمة الذكية أن مدينة العقبة الرقمية ليست مجرد بنية تحتية تقنية، بل هي نقطة تحول في المنظومة الوطنية للابتكار الرقمي. فهي تعيد تعريف موقع الأردن في خريطة الاقتصاد المعرفي العالمي، وتؤسس لبيئة متكاملة قادرة على احتضان تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، والحوسبة السحابية الآمنة.
هذا المشروع يشكل في جوهره نواة لاقتصاد رقمي سيادي؛ إذ يمنح الأردن استقلالية في إدارة بياناته، ويخلق أساسا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على بنية اتصالية قوية وقريبة من مصادر البيانات. إن وجود مركز بيانات إقليمي ومحطة إنزال كوابل بحرية مفتوحة الوصول يعني فتح الأبواب أمام شركات التقنية العالمية لتوطين خدماتها داخل المملكة، ما يتيح للشركات الأردنية الصغيرة والمتوسطة أن تنمو وتتنافس عالميا في بيئة داعمة.
من زاوية أكاديمية، فإن المدينة الرقمية تمثل مختبرا حيا للبحث والتطوير في مجالات الذكاء الاصطناعي التطبيقي، والأمن السيبراني، وتحليل البيانات، وتمكن الجامعات ومراكز الأبحاث من عقد شراكات استراتيجية مع القطاعين العام والخاص لتوليد حلول وطنية مبتكرة.
ولعل الأثر الأعمق لهذا المشروع يكمن في تمكين الشباب الأردني: إذ يفتح أمامهم فرصا غير مسبوقة للتعلم التطبيقي، والابتكار، وريادة الأعمال الرقمية، مما يحول الأردن من مستهلك للتقنيات إلى منتج ومصدر للمعرفة الرقمية.
إن هذه الخطوة التاريخية التي يقودها سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد ? الثاني، حفظه الله، تعكس رؤية ملكية واعية لمستقبل تدار فيه التنمية بالعقل الرقمي لا بالبنى التقليدية. وأؤمن أن مدينة العقبة الرقمية ستكون البوابة الحقيقية لعصر جديد تتلاقى فيه التقنية والإنسان لصنع أردن أكثر ابتكارا، وأكثر تأثيرا في محيطه الإقليمي والعالمي.
عمق المبادرة وأبعادها
تشكل مدينة العقبة الرقمية خطوة نوعية في مسار التحول الرقمي الذي تسعى إليه المملكة. المشروع ليس مجرد مجمع تقني، بل بنية تحتية رقمية متكاملة تشمل:
- مركز بيانات على مساحة تقارب 17 ألف متر مربع، بقدرة تشغيلية تصل إلى 12 ميغاواط جاهزة لاستقبال تقنيات الذكاء الاصطناعي.
- أول محطة إنزال كوابل بحرية بسياسة الوصول المفتوح في المملكة، ما يعزز موقع الأردن كبوابة رقمية مستقلة ترتبط مباشرة بالشبكات الدولية.
- ثلاث كوابل بحرية تشكل جسرا للربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، إضافة لكابلين آخرين قيد التطوير والربط بالمدينة الرقمي.
- أول مركز محايد لتبادل البيانات في المملكة، سريع الانتشار في المنطقة، يمكن عبره استضافة الخدمات السحابية العامة والخاصة، إلى جانب منظومة أمنية متكاملة تشمل مركز عمليات أمنية ومنصة وصول آمن، الأمر الذي يجعل المملكة وجهة إقليمية لاستضافة الأنظمة الحساسة للجهات الحكومية والقطاع المالي.
- مرافق لتدريب الشباب وتأهيلهم في مجالات تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني، فضلا عن مراكز للبيانات والذكاء الاصطناعي وتصميم الألعاب الإلكترونية وصناعة المحتوى الرقمي.
الرسالة الاستراتيجية – لماذا العقبة؟
اختيار موقع المشروع في مدينة العقبة يأتي امتدادا لرؤية المملكة في تعزيز مكانتها كمركز إقليمي للبنى التحتية الرقمية، وربط الأردن بخطوط الاتصال العالمية. فوجود محطة إنزال الكوابل البحرية ضمن المشروع يعكس التوجه نحو جعل الأردن منصة محورية للبيانات والاتصال بين القارات، ما يعزز من تنافسيتها في الاقتصاد الرقمي العالمي.
كما أن تأهيل مرافق لتدريب الكوادر الأردنية في المجالات الرقمية يعكس حرص المملكة على استثمار رأس المال البشري، وتمكين الجيل الجديد من المساهمة الفاعلة في التحول الرقمي، مما يرسخ فكرة «أردن رقمي مزدهر».
الأثر الاقتصادي والمجتمعي
هذا المشروع – الذي وضع بعناية ضمن البنية التحتية الرقمية – يتوقع أن يحدث عددا من التأثيرات الملموسة:
- جذب الاستثمارات الدولية والإقليمية في مجال البيانات، الخدمات السحابية، والأمن السيبراني، ما يعزز الاقتصاد المعرفي ويخلق فرص عمل في قطاعات المستقبل.
- تعزيز قدرة المؤسسات الحكومية والقطاع المالي على النهوض بأنظمة رقمية متطورة، تزيد من كفاءتها ومرونتها، وتعزز من الأمن الرقمي الوطني.
- تمكين الشباب الأردني من اكتساب مهارات تقنية عالية، ما يسهم في بناء جيل قادر على المشاركة في الاقتصاد الرقمي العالمي بدلا من مجرد المستهلك.
- رفع مكانة الأردن دوليا كمركز رقمي يربط القارات، الأمر الذي يمكن أن يعزز من دورها الجيو-تقني في المنطقة ويمنحها موقعا أكثر جذبا للشراكات الرقمية.
التزام بالتمكين الداخلي والتعاون الخارجي
من خلال بيان رئيس مجلس إدارة المدينة الرقمية، المهندس إياد أبو خرما، يتضح أن المشروع تأسس بكفاءات أردنية، ما يدل على الثقة بالطاقات المحلية والقدرة على الإنجاز.
كما أن الربط بالكوابل البحرية ومحطات إنزال متعددة يؤكد أن الأردن لا تعمل بمعزل عن العالم، بل تسعى لاستيعاب البنى التحتية الرقمية العالمية داخل أراضيها، ما يشكل قاعدة للتبادل والمعرفة والشراكات التقنية.
اتجاهات المستقبل
ينبغي النظر إلى هذا المشروع كبوابة نحو مرحلة أوسع من التحول الرقمي، وليس نهاية الرحلة. ومن بين المسارات التي يمكن البناء عليها:
- تعزيز الشركات الناشئة الرقمية: توفير بيئة جاذبة للشركات التي تعمل في الذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات، وتصميم الألعاب الرقمية، مع حوافز لجذبها إلى المملكة.
- توسعة الربط الإقليمي والدولي: استخدام مركز البيانات كمحور لربط الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأسواق آسيا وأوروبا، ما يعزز الاقتصاد الرقمي الأردني ويزيد من صادراته بمعنى الخدمات الرقمية.
- تطوير التعليم والتدريب الرقمي: ربط المشروع ببرامج أكاديمية ومؤسسات تدريبية لتخريج كوادر شابة متمكنة، مع التركيز على الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
- التركيز على السياسات التنظيمية: ضمان وجود إطار قانوني وتنظيمي يشجع الخصوصية، وحماية البيانات، والاستثمار، بما يتماشى مع المعايير العالمية ويمنح المستثمرين والثقة.
- استدامة الطاقة والبنى التحتية الخضراء: مراعاة البعد البيئي في تشغيل مركز البيانات، من خلال اعتماد حلول طاقة منخفضة الانبعاث وتبريد فعال، تكون جزءا من الاقتصاد الرقمي المستدام