النشامى.. لقبٌ ومعنى ومسؤولية

حين ينادي المذيع في مباراة كرة قدم: «شدّوا الهمة يا نشامى»، أو يذيع خبر عن إنقاذ عالقين في سيول، أو تنشر صورة لجنودٍ على الحدود، يتحرّك في الوجدان الأردني شيء أعمق من مجرّد انفعال عابر. كلمة «النشامى» هنا ليست زخرفة لغوية؛ هي تلخيص سريع لصورة يريد الأردني أن يعترف بها في نفسه وفي مجتمعه: ناسٌ يعتمد عليهم، ينهضون في اللحظة الصعبة، ويضعون المصلحة المشتركة قبل المصلحة الضيّقة.
تتشكل دلالة اللقب من تاريخ طويل لبلدٍ مكوَّن من مدن وقرى ومخيّمات وبوادي، ومن بشر عاشوا أشكالًا مختلفة من شظف العيش والعمل والمسؤولية. «النشمي» يمكن أن يكون الضابط على خطوط الحدود، والعامل في ميناء العقبة، والمزارع في الأغوار، والمعلّم في مدرسة بالأطراف، والطبيب المناوب في طوارئ عمّان، وسائق الحافلة الذي يحمل أرواح الناس كل صباح. القاسم المشترك بينهم جميعًا ليس المكان ولا اللباس، وإنما طريقة النظر إلى الذات: أن يكون الإنسان في موقعه «قدّ الحمل» وقت الجد.
في الأصل الشعبي للكلمة، النشمي هو صاحب الفزعة، الذي لا يلتفت طويلًا إلى الحسابات الصغيرة حين يرى من يحتاج إلى من يسانده. هذه الروح انطلقت من بيئات عشائرية معروفة، ثم تحوّلت مع قيام الدولة وتكوّن المجتمع الحديث إلى قيمة وطنية عامة. لم تعد حكرًا على نمط عيش معيّن، ولا على بنية اجتماعية واحدة، وإنما أصبحت جزءًا من القاموس المشترك الذي يخاطب به الأردني نفسه والآخرين.
كل لقبٍ قوي يحمل وجهين: إغراء الشرف، وواجب الاستحقاق. حين ينادى شعبٌ كامل بلقب «النشامى»، يكتسب لحظة اعتزاز، غير أن هذا الاعتزاز يحمّله سؤالًا صعبًا: هل نُطابق في سلوكنا ما نقوله عن أنفسنا؟ النشمي الحقيقي هو من لا يحتاج إلى كاميرا كي يكون كريمًا، ولا ينتظر تصفيقًا كي يؤدّي واجبه، ولا يساوم على النزاهة لأن أحدًا لا يراه. النخوة هنا ليست انفعالًا ذكوريًا لحظيًا، إنما أخلاق مدنية يومية: احترام للطابور، التزام بالقانون، حرص على المال العام، أخلاق في الخلاف قبل الاتفاق.
تتقدّم المرأة الأردنية في هذا المعنى في الصفوف الأولى. كثيراتٌ يُشار إليهن في البيوت وأماكن العمل بأنهن «نشميات» قبل أي وصف آخر. في الممرّات الطويلة للمستشفيات، في قاعات التدريس، في مؤسسات المجتمع المدني، وفي تفاصيل الحياة اليومية داخل الأسرة الممتدة، تتجسّد صورة نشمية تعرف كيف تجمع بين الحزم والرحمة، وبين القدرة على الاحتمال والرغبة في التغيير. حين يُستخدم اللقب معها، يتجاوز الصورة الضيّقة للنشمية بوصفها فقط «صاحبة فزعة عائلية»، ليشير إلى شراكة كاملة في حمل أعباء المجتمع والدولة.
تواجه الألقاب الكبرى خطر التبسيط والاستهلاك. يتسرّع البعض في استخدام «النشامى» في كل سياق، حتى أصبح يُستدعى أحيانًا في الإعلانات التجارية أو في خطابات تملّق لا علاقة لها بالمعنى الحقيقي. هنا يبدأ الفراغ: تزداد الكلمة حضورًا في الصوت والصورة، ويقلّ حضورها في السلوك والفعل. الطريق إلى استعادة معناها يمرّ من مراجعة هادئة: أن نُسمّي الأشياء بأسمائها، وأن نعترف بأن النشمي لا يُقاس فقط بفزعة عاطفية، وإنما بقدرته على أن يكون أمينًا في عمله، صادقًا في تعامله، محترمًا لكرامة الآخرين مهما كانت مواقعهم.
في الأردن اليوم ملفات ثقيلة: اقتصاد يضغط على الناس، جغرافيا حسّاسة، موجات لجوء متلاحقة، وتحولات إقليمية لا تهدأ. في هذا السياق، يكتسب لقب «النشامى» بعدًا جديدًا؛ فالبطولة لم تعد محصورة في ساحة معركة تقليدية. من يخلق فرصة عمل في حيّ مكتظ، من يحمي شجرة من القطع، من يصرّ على تدريس قيم المواطنة لطلّابه، من يرفض أن يشارك في فساد صغير، كل هؤلاء يمارسون شكلًا مختلفًا من النخوة. اللقب يتسع لهؤلاء كما يتسع لرجال الجيش والأمن والدفاع المدني الذين يضعون حياتهم في خط المقدّمة.
في النهاية، «النشامى» امتحان قبل أن يكون مديحًا. الامتحان لا يُجرى في المناسبات الوطنية فقط، وإنما في موقفٍ بسيط على إشارة ضوئية، في طريقة التعامل مع عامل النظافة، في الحوار مع من نختلف معه سياسيًا أو فكريًا. إن نجحنا في هذه الامتحانات الصغيرة، استحقّ اللقب أن يبقى جزءًا من صورة الأردن عن نفسه، لا مجرّد شعار يقال ثم يُنسى. يومها يغدو «النشمي» اسمًا ثانيًا للمواطن الذي يرى في البلد بيتًا مشتركًا، ويحرسه بأخلاقه قبل أي شيء آخر.