منذ انطلاقتها حملت وسائل التواصل الاجتماعي وعودًا بتقريب المسافات بين المستخدمين، وتعزيز حواراتهم، وتسييد فكرة تقبل الآخرين لديهم. ومنذ ذلك الحين كان يفترض أن تغدو جسورا متينة تتعالى على مستنقعات الطائفية والعنصرية والجهوية وغيرها من الأسقام. أي أن تكون بحق وسيلة تواصلية. لكنها للأسف غدت في بعض من المواقف جدارا عاليا وشائكا لا يمكن اختراقه أو القفز من فوقه. هي وسيلة للتفاشل الاجتماعي، على حد تعبير بعض الأصدقاء.
فقريباً مما طرحه المفكر أمبرتو إيكو بحق تلك الوسائل ووصفها بأنها محرقة، وأنها منحت «حق الكلام» لمن لا يستحق أن يتكلم ويبدي رأيا، مع تحذيره من أثرها السلبي على جودة النقاش العام، بتنا نلحظ تعاظم دورها في تشكيل وصياغة الرأي العام بعد أن نزعت هذه الميزة من ووسائل الإعلام التقليدية وقادة الرأي.
فالأخبار الزائفة والمحتوى الرديء والبغضاء الرقمية كلها باتت جزءًا أساسيًا من المشهد الذي يلفنا مما يؤثر على ثقتنا بالعلاقات الاجتماعية الحقيقية، وعلى المكون البنيوي في مجتمعنا. إضافة إلى ذلك. فتأثير الخوارزميات صار أكثر ضراوة وشراسة في تشكيل «فقاعات» تبقي المستخدم أسيرًا لآرائه وقناعاته، وتجعله غير منفتح على التباين أو التعددية الفكرية.
ومع ذلك الانغلاق إلا أن أثرا أعمق نراه يتفشي في بعض مستخدمي تلك الوسائل يمكننا تسميته «التفكير المزدوج»، وهو مفهوم صاغه الكاتب جورج أورويل في روايته «1984»، إذ يصبح الفرد قادرا على تصديق وجهتي نظر متناقضتين حول قضية واحدة دون وعي بتناقضه وانفصاله عن أرض الواقع. هذه الحالة باتت شائعة إذ نرى تداولا لمواقف متضاربة دون إدراك اصحابها للتنافر المعرفي والأخلاقي الذي وقعوا فيه. ومثال ذلك، ما نراه في حملات الدفاع عن الانتماء الوطني أو العرقي أو التوجه الطائفي.
نعي أن وسائل التواصل ليست أداة تواصلية تفاعلية فقط، بل فضاء معقد يتيح الابتكار والإبداعي. لكن الواقع غير هذا تماما، لا سيما في ظل وجود ذلك التفكير الذي يسلب أصحابه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والقبيح والجميل، والخير والشر، ويحوّل النقاشات العامة إلى مساحات موبوءة من التجريح والتعريض والانتقاد السقيم.
ويتطلب التصدي لهذه الظاهرة إعادة النظر في كيفية استخدامنا لتلك الوسائل، مع التركيز على تعزيز التفكير النقدي والوعي الرقمي. فبينما تقدم هذه الوسائل فرصا للتواصل، إلا أنها تحمل مخاطر تهدد بنسف أسس الحوار الإنساني والوطني إذا لم تُنظم بوعي ومسؤولية.