لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تطور تقني، بل تحوّل في بنية الوعي الإنساني. فالقضية لم تعد فيما تنتجه الآلة من نصوص وصور، بل فيما تسلبه من الإنسان من قدرته على التفكير والتأمل. نحن أمام ثورة معرفية تضعنا أمام سؤال جوهري: كيف نحافظ على إنسانية الفكر في زمنٍ تفكر فيه الخوارزميات وتقرر نيابة عن البشر؟
في العالم العربي ما زال التعليم قائماً على التلقين أكثر من التحليل الناقد، والإعلام مازال يقوم على الانفعال أكثر من الفكرة. وهكذا نستهلك التقنية دون أن ندرك أنها في الوقت نفسه تعيد تشكيل عقولنا وسلوكنا وذائقتنا.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في تطور الذكاء الاصطناعي، بل في غياب الوعي النقدي لدى من يستخدمه، حين يتحول الإنسان من صانعٍ للمعرفة إلى مستهلكٍ لمعلومة جاهزة تغنيه عن التفكير.
لا بد من إعادة تعريف التعليم والذي هو المدخل الأول لبناء جيلٍ واعٍ ومدركٍ ومتعلم، ليصبح تدريباً على التفكير لا حفظاً للنصوص واجترارا المعلومات . والتعليم في عصر الذكاء الاصطناعي يجب أن يعلّم الطالب كيف يسائل ويناقش المعلومة ومصدرها ويتفحص صدقيتها ومنطقيتها، لا أن يكتفي بنسخها.
حيث الآلة أداة قوية تبصر النصوص وتجمع المعلومات والأفكار، لكنها تصبح خطراً حين نسمح لها بأن تفكر عنا، وتقرر عنا، وتقود حياتنا حيث تشاء وكيف تشاء. والطالب الذي يعتاد إجابات الخوارزميات أو برامج المحادثة مثل «تشات جي بي تي» يفقد تدريجياً مهارة السؤال والتحليل، والقدرة على سبر أعماق المحتوى وقياس صلاحيته، وهي جوهر الوعي الإنساني.
ولأن بناء الوعي لا ينفصل عن التربية الأخلاقية الرقمية، حيث التقنية بلا قيم تتحول إلى فوضى فكرية، وخليط معلومات غير متجانس ولا مفيد. فعلينا أن نغرس في الجيل الجديد ثقافة المسؤولية في استخدام المعلومة، والتحقق من مصدرها، واحترام الخصوصية، وفهم تحيّز الخوارزميات التي توجهنا لما نرى ونفكر ، كما تشاء وأين تشاء.
لا يمكن بناء جيلٍ مفكرٍ ناقدٍ من دون تحويل الصف الدراسي إلى مساحة للحوار والمناقشة الموضوعية لا إلى قاعة تلقين ، فجيلٌ لا يسأل لا يفكر ، وجيل لا يستوعب لا يقرر.
يجب أن نشجع طلابنا على النقاش الحر والجدل البنّاء ومساءلة الأفكار، وعلى تقليب المعلومة وتفحص سلامتها من أي شائبة دون خوف أو تردد، لأن الوعي لا يولد من الإجابات الجاهزة، ولا من المعلومات المعلّبة، بل من القدرة على الشكّ الواعي والتحليل المستقل والموضوعية السليمة.
إن المعلم الواعي المليء بالعلم والمعرفة هو حجر الزاوية في هذه المنظومة. فالمربي التقليدي لا يستطيع أن يقود عقلاً منفتحاً مرناً يعيش ويواجه المستقبل بثبات واقتدار. فعلى المعلم العربي أن يرى في الذكاء الاصطناعي شريكاً في توسيع أفق الطالب، لا بديلاً عن جهده العقلي. وإن نهضتنا المأمولة وتقدمنا العلمي والحضاري لا يقاسان بعدد الأجهزة التي نملك أو بسرعة الخوادم وحداثتها، بل بقدرتنا على إنتاج السؤال والحوار وصناعة التفكير الحر والقدرة على الإنتاج العلمي المفيد.
فالذكاء الاصطناعي امتحان لعقولنا واختبار لنزاهتنا ومسبار لأخلاقنا العلمية قبل أن يكون إنجازاً تقنياً؛ فإما أن نجعله وسيلة لصناعة الوعي والتطور والتحضر، أو نجعله بوابة جديدة لجهل أنيق مبرمج ، وواجهة صدٍ وانغلاقٍ وتبعية مطلقة.