لا أقصد التقاعد المبكر بصيغته التي حرص المشرع على وضعها ضمن قانون الضمان الاجتماعي في نسخته الأولى بمرحلة التأسيس، وقبل أن يتم توظيف ذلك النص في غير مضمونه الحقيقي كمخرج يمكن توظيفه في حالات متعددة معظمها حالات استثنائية. وبحيث يكون التطبيق استثناء وليس أصلا.
وقبل أن تتوسع دائرة توظيف ذلك النص في مجالات قلبت الموازين ليبدو" المبكر" وكأنه هو الأساس، بينما التقاعد العادي" الشيخوخة" استثناء. فالأرقام المتداولة حول ملف التقاعد في مؤسسة الضمان الاجتماعي تشير إلى أن 54 % من المتقاعدين حاليا هم من متقاعدي "المبكر"، وتستحوذ رواتبهم على نحو 62 % من إجمالي فاتورة التقاعد والاعتلال.
والقراءات تؤكد أن المشكلة بدأت مبكرا، وعلى شكل رغبة الكثير من المشتركين بالضمان الحصول على التقاعد المبكر، رغم الرسائل التحذيرية التي تحمل مضامين مزدوجة، يشير شقها الأول إلى أن المتقاعد مبكرا يفقد جزءا كبيرا من راتبه التقاعدي المنتظر في حال استكمل اشتراكاته وحصل على تقاعد الشيخوخة. بينما يشير شقها الثاني إلى أن التهافت على" المبكر" يؤدي إلى خسارة مركبة لصندوق الضمان الاجتماعي.
فمن جهة، يتوقف المتقاعد عن دفع الاشتراكات للفترة التي يفترض أن يمضيها مشتركا إلى حين الحصول على تقاعد الشيخوخة. ومن جهة ثانية تزداد الاعباء على صندوق التقاعد الذي يكون مضطرا لدفع مخصصاته التقاعدية لتلك الفترة وبالتالي لفترة أطول.
وبين هذه وتلك، هناك من يجد نفسه بين صفوف العاطلين عن العمل، وممن يضيفون أرقاما جديدة إلى إحصاءات البطالة، مع أنهم ما يزالون في سن الإنتاج والعمل.
اللافت هنا، أن المحاولات المتكررة لمعالج تلك الثغرة، بتعديل القانون وتشديد متطلبات الحصول على التقاعد المبكر لم تفلح في معالجة المشكلة، حيث اقتصرت النتائج على التخفيف من حدتها، من خلال رفع سن الحصول عليه. مقابل محاولات رفض لأي إجراءات من هذا القبيل تحت مسمى" الحق المكتسب" الذي يمتد إلى شكاوى لاحقة من تدني تلك الرواتب ومطالبات بمنح هؤلاء المتقاعدين زيادات لتحسين أوضاعهم المعيشية وحراكات نيابية تتبنى تلك المطالب.
اللافت لاحقا أن تلك المشكلة لم تتوقف عند هذه الصورة، حيث اتسعت دائرة التقاعد المبكر من خلال إجراءات حكومية قادتها أمانة عمان الكبرى، ووزارة التربية وبعض المؤسسات الحكومية، التي بدأت تطبيق إجراءات هدفها التخلص من" الحمولات الزائدة" من الموظفين.
فمثلما أطلقت بعض الدوائر في مواسم سابقة عمليات تعيين بالمئات دون أي ضوابط باستثناء محاولات إرضاء النواب، أرسلت مؤخرا ـ على دفعات ـ قوائم مماثلة بمئات الأشخاص إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي لغايات التقاعد المبكر، ما زاد العبء على المؤسسة وجعلها في موقف حرج إداريا، وضمن مخاوف من الوصول إلى وضع حرج ماديا. فأرقام الضمان تشير إلى أن نفقات المؤسسة التأمينية تجاوزت 85 % من إيراداتها التأمينية لأول مرة في تاريخها منذ 45 عاما.
ما يزيد من تعقيدات المشكلة أن بعض الدوائر الرسمية تخطط للتخلص من آلاف الموظفين بإرسالهم إلى التقاعد المبكر بمجرد استكمال شروط ذلك النوع من التقاعد بحجة العمل على ترشيق جهازها الوظيفي، متناسية أن الاستمرار في هذا النهج من شأنه أن يضعف الوضع المالي للمؤسسة التي أصبحت تشكل مستقبل كل الأردنيين، وغيرهم من المشتركين من جنسيات أخرى تعمل داخل المملكة. ويؤثر على الامتيازات التي يحصلون عليها. وأن ترشيق الجهاز الحكومي لا يمكن أن يكون على حساب مؤسسة الضمان. وأن " المؤسسة" ليست ملزمة بمعالجة أخطاء متراكمة ارتكبها مسؤولون في مواقع مختلفة.
فكما هو معروف في نص قانون الضمان الاجتماعي، تلتزم المؤسسة بإجراء دراسات اكتوارية كل ثلاث سنوات، لمعرفة الواقع المالي لها، والتركيز على مقارنة الإيرادات بالنفقات، والموعد المتوقع لبلوغهما حد التساوي. حيث أشارت آخر دراسة إلى أن العام 2031 سيكون موعد تساوي النفقات مع الإيرادات. وتنتظر المؤسسة نتائج دراسة تجري حاليا لمعرفة آخر المستجدات في هذا الملف.
وتكون المؤسسة ملزمة وفقا لتلك النتائج بمعالجة أي من المؤشرات السلبية، إما من خلال إجراءات إدارية أو بتعديل القانون، وسط خيارات يمكن أن تكون محدودة، وتنحصر بين زيادة الإيرادات برفع الاشتراكات، أو ترشيد الامتيازات التي يحصل عليها المتقاعدون. مع فرضية الجودة لعملية الاستثمار الخاصة بأموال الضمان، وأنها تسير وفق سوية عالية.