مع اقتراب موسم القبولات الجامعية، يعيش آلاف الطلاب وأولياء الأمور حالة من الحيرة في اختيار التخصص المناسب، في زمن أصبحت فيه المهارات والخبرة العملية أهم من الشهادات الجامعية، يتساءل الكثيرون: هل التعليم اليوم يُعدّ أجيالًا مبدعة أم مجرد حملة شهادات؟
من رحلة معرفة إلى سباق علامات: كيف فقد التعليم روحه؟ هذا هو السؤال.
قال المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري:
«كان التعليم مجانيًا ممتعًا، وبالتدريج أصبح غير مجاني بسبب الدروس الخصوصية، ثم أصبح لا علاقة له بالتعليم، إذ أصبح التعليم الآن هو اكتساب مقدرة اجتياز الامتحانات.»
هذه العبارة تلخص مسيرة التعليم العربي في العقود الأخيرة؛ فقد بدأ التعليم كرحلة للمعرفة والاكتشاف وتنمية العقل، ثم تحوّل تدريجيًا إلى سوق متكامل للدروس الخصوصية يستنزف الأسرة والطالب معًا، حتى انتهى به الأمر إلى صورة آلية هدفها الأوحد عبور الامتحانات والحصول على الشهادة.
في علم الاجتماع التربوي يُطلق على هذه الظاهرة مصطلح التسليع التعليمي (Educational Commodification)، حيث تتحول العملية التعليمية إلى سلعة، ويتحوّل الطالب إلى «زبون» والمعلم إلى «مزوّد خدمة»، وينحصر الهدف في إنتاج درجات وشهادات لا تصنع عقلًا ناقدًا أو إنسانًا مبدعًا. وهكذا يظهر جيل قادر على الحفظ والتلقين، لكنه غالبًا عاجز عن التفكير النقدي أو إنتاج الحلول.
«التعليم فقد روحه حين أصبح النجاح مجرد رقم على ورقة والشهادة أغلى من الفهم.»
إنّ أخطر ما يواجه التعليم العربي اليوم ليس نقص الموارد أو ضعف المناهج فحسب، بل فقدان المعنى. فحين يصبح النجاح مجرد رقم على ورقة، والشهادة أغلى من الفهم، تكون العملية التعليمية قد فقدت رسالتها الأساسية، وهي بناء إنسان قادر على التفكير المستقل وصناعة المستقبل.
التعليم ليس سباقًا للعلامات ولا خط إنتاج للشهادات؛ التعليم الحقيقي مشروع حضاري يهدف إلى صناعة عقل حرّ وقادر على الإبداع. لذلك فإن إصلاح التعليم لا يبدأ فقط من تطوير المناهج أو زيادة الإنفاق، بل من إعادة تعريف غايته الكبرى: تكوين شخصية متكاملة قادرة على النقد والإبداع والمشاركة في بناء المجتمع.
لقد آن الأوان لطرح هذا السؤال بشجاعة: هل نريد أن نصنع حملة شهادات أم صانعي أفكار؟ الجواب لن يأتي من المؤسسات وحدها، بل من حوار وطني واسع يشارك فيه المعلمون والطلاب وأولياء الأمور وصانعو السياسات.
لنقبل التحدي! لنبدأ ثورة تعليمية حقيقية تُعيد للتعليم روحه، وتضع الطالب في قلب العملية التعليمية، لا على هامشها. لنحوّل النقاش إلى خطط عملية تغيّر واقعنا التعليمي، فنحن قادرون على صناعة جيل مبدع يفكر ويبتكر، لا مجرد جيل يجمع الدرجات. التغيير يبدأ اليوم، ولن يكتمل إلا بإرادتنا الجماعية وفعلنا المشترك.