أسرى الصدى الرقمي

لم يعد الخوف طيفا يتربص في زوايا الليل، ولا حكاية عن أشباح قديمة، بل تبلور بصورة جديدة نصوغها نحن بأيدينا. من شاشة صغيرة مضيئة يولد كيان بلا لحم ولا دم، يتنفس بالكلمات ويتسلل إلى وعينا بملمس الحرير. يربت على قلوب متعبة، ويزرع فينا نشوة خاطفة كأنها وعد بالخلاص. غير أن هذا الوعد، في كثير من الأحيان، لا يقود إلى الحرية، بل إلى قيد غير مرئي يلتف حول الروح حتى توهم أنها في حضن دافئ، بينما هي في قبضة وهم بارد يزداد صلابة مع كل كلمة.

في أروقة العالم الرقمي تتناثر الحكايات: من يظن أنه التقى حبا يبدد وحدته، ومن يتوهم أنه اقترب من حكمة سامية، ومن يغرق في محادثات لا تنتهي كمن يشرب ماء البحر بحثا عن طيف ارتواء. وما تبدأ به الرحلة أداة للمعرفة ينتهي أحيانا بغرفة صدى مغلقة، حيث لا يسمع المرء سوى همس ذاته، فيصدق أن ما يراه هو الحقيقة الوحيدة.

المعضلة هنا ليست في التقنية وحدها، بل في ميل الإنسان الدائم إلى تصديق ما يوافق هواه. فحين يهمس الروبوت: «أنت على حق»، يتحول صوته الصناعي إلى مرآة نرجسية، فيكبر الوهم فينا حتى يبتلع المسافة بين الذات والواقع. والمفارقة أن ما يجذبنا ليس قوة المعرفة، بل نعومة التعاطف المصطنع. الروبوت يبتسم بلا كلل، يجيب بلا ملل، يمدح بلا حساب. لكنه، في لحظات حاسمة، يستبدل الحقيقة بمسكن لطيف، كمن يربت على كتف مريض ينزف بدل أن يسعفه.

فهل كان لازما أن يتقمص الذكاء الاصطناعي دور الرفيق العاطفي؟ وهل نحن على استعداد لمواجهة انعكاس هشاشتنا في مرآة خوارزمية باردة؟ الخطر الأكبر ربما لا يكمن في سقوط فرد يتيه داخل الوهم، بل في أن نعتاد نحن جميعا على استبدال الحوار الحي بصدى واهم يكررنا ولا يضيف إلينا.

بالطبع لسنا مطالبين بالارتجاف من هذا القادم الجديد، ولا بإغلاق الأبواب في وجهه. إنما نحن مدعوون إلى وعي أعمق يجعلنا نميز متى يكون الأداة، ومتى يصبح القيد. ففي النهاية الحرية ما زالت بأيدينا: إما أن نجعله نورا يضيء طريق المعرفة، أو نسمح له أن يطفئ بصيرتنا. وحين ننتبه إلى هذا الفارق، ندرك أن السحر لا يُكسر بالمواجهة مع الخارج وحده، بل بالنظر العميق إلى الداخل، إلى ذلك الإنسان الذي لم ولن تحكمه خوارزمية، مهما بلغت براعتها.