«أنا في مهمة أجيال، هناك أجيال من اليهود حَلِمَت بالمجيء إلى هنا، وستأتي أجيال بعدنا... فإذا كنت تسأل إن كان لديّ شعور بالمهمة تاريخيًّا وروحيًّا، فالجواب نعم»، نتن ياهو.
في عام 1799، وقف نابليون بونابرت أمام أسوار مدينة عكّا المنيعة، يتطلع شرقًا نحو المجهول، ليصدر بعدها دعوته التاريخية إلى يهود العالم للاستقرار في فلسطين. كانت هذه الدعوة تهدف إلى تأسيس كيان جديد يخدم المصالح الغربية، ويعمل على إضعاف النفوذ العربي وتقسيم المنطقة جغرافيًّا وسياسيًّا.
استمرت هذه الرؤية الاستعمارية في التطور عبر العقود التالية؛ حيث عبّر عنها اللورد بالمرستون -وزير الخارجية البريطاني- في رسالة رسمية إلى سفيره في إسطنبول عام 1840، قائلًا: «إن استقرار اليهود في فلسطين سيمكننا من استخدامهم كمخلب قط لمواجهة النفوذ العربي والعثماني في المنطقة».
شهد عام 1897 نقطة تحول محورية في تاريخ المنطقة، عندما انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية. أقرّ هذا المؤتمر مبدأ إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، مطالبًا بضمانات دولية لتحقيق هذا الهدف.
وبعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، تحوّلت هذه الرؤية النظرية إلى واقع مأسوي؛ حيث تأسست «إسرائيل» على حساب التهجير القسري للشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية.
في السياق المعاصر، وبعد أكثر من قرن على تلك المخططات الاستعمارية الأولى، خرج مجرم الحرب نتن ياهو ليعيد إحياء النزعة التوسعية من خلال الإعلان عن مشروع «إسرائيل الكبرى» عبر وسائل الإعلام.
في لقاء تلفزيوني مُدبّر بعناية، قدم الإعلامي اليميني المتطرف شارون غال لنتنياهو قلادة تحمل خريطة «إسرائيل الكبرى» كهدية لزوجته، في مشهد كشف بوضوح عن الطبيعة المُعدّة مسبقًا للحوار برمّته.
تمثل هذه الخطوة محاولة مدروسة لصياغة شعار سياسي جذاب يهدف إلى توحيد التيارات المتطرفة، وفقًا للنهج المعتاد للأنظمة التسلطية التي تلجأ إلى الشعارات القومية المضللة لإخفاء إخفاقاتها الداخلية.
يبدو أن هذا الشعار يستهدف تحقيق عدة أهداف استراتيجية: صرف الانتباه عن الإخفاقات العسكرية في قطاع غزة، وتوجيه رسالة واضحة إلى الفلسطينيين والعرب بأن سياسة عدم التنازل ستستمر، وأن مفهوم حل الدولتين قد انتهى فعليًّا، وأن رفع سقف المطالب الإسرائيلية يهدف إلى تقليل تكلفة المفاوضات المستقبلية على الجانب الإسرائيلي.
ثمة قراءة أخرى لهذا التوقيت والخطاب، تتمثل في كونه ورقة سياسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمفاوضات الرامية إلى إنهاء العمليات العسكرية الجارية، لكنها تهدف في الوقت نفسه إلى تعزيز الموقع السياسي لنتن ياهو لدى التيارات اليمينية المتطرفة، ورفع معدلات تأييده الشعبي، وضمان استقرار حكومته الائتلافية. كما تسعى هذه الخطوة إلى استمالة الجماعات الإنجيلية المؤمنة بنبوءات آخر الزمان في الولايات المتحدة، تلك التي تعتبر الصراع والدمار في المنطقة مقدمات ضرورية تؤدي إلى نزول السيد المسيح.
وأيًا كان التفسير المقبول لهذه التطورات، فإن الثابت أن هذه المخططات ليست مجرد تصريحات إعلامية أو مناورات سياسية عابرة، بل تترجم على الأرض من خلال سياسات وإجراءات محسوبة ومدروسة. والمشروع الذي احتاج إلى نصف قرن بين انعقاد مؤتمر بازل والسيطرة الفعلية على فلسطين، يبدو أن منفذيه يطمحون إلى تحقيق المرحلة التالية في فترة زمنية أقصر بكثير.
تشير المؤشرات الميدانية إلى أن عملية التنفيذ قد بدأت فعليًّا؛ حيث تتوسع المشاريع الاستيطانية بوتيرة متسارعة، ولعل أخطرها وأكثرها دلالة هو بناء 22 مستوطنة جديدة في منطقة غور الأردن الاستراتيجية على الجانب الفلسطيني، وهي المنطقة التي تُعتبر تاريخيًّا نقطة الانطلاق الأساسية لأي مشروع توسعي استيطاني. وتتزامن هذه الخطوات العملية مع تصريحات رسمية صهيونية واضحة، مدعومة بموقف أمريكي صريح، تؤكد العزم على ضم الضفة الغربية بالكامل ودفن أي احتمال لفكرة حل الدولتين.
في مواجهة هذا المشهد المعقد والمتصاعد، تواجه الدول المستهدفة -وفي المقدمة منها مصر والسعودية إلى جانب الأردن- ضرورة ملحة لتأسيس آلية تنسيق استراتيجية مشتركة تتخذ شكل غرفة عمليات دائمة. يتوجب على هذه الآلية تكثيف الجهود الدبلوماسية في إطار الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، وبناء تحالفات فعالة مع القوى الدولية المؤثرة والأطراف الإقليمية ذات المصالح المشتركة، فضلًا عن تعزيز مستويات التنسيق العسكري والأمني، بما يفضي في نهاية المطاف إلى إبرام معاهدة دفاع مشترك شاملة تكفل حماية هذه الأوطان من الأطماع التوسعية للقوى المعتدية.
وعلى المستوى الوطني، تتطلب الضرورات الاستراتيجية في الأردن إطلاق برامج تنموية واستثمارية واسعة النطاق في منطقة غور الأردن، تشمل مشاريع إسكان متطورة ومجمعات صناعية وزراعية، بهدف تكوين كتلة سكانية كثيفة ومستقرة على امتداد الحدود الشرقية، تمثل حاجزًا ديموغرافيًّا وجغرافيًّا منيعًا يحول دون أي محاولات توسعية استيطانية مستقبلية.
في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة، يتعين الانتباه إلى أبعاد حرب المعلومات والحرب النفسية المُوجَّهة ضد دول الطوق، والتي تتخذ أشكالًا متنوعة من نشر الإشاعات والمعلومات المضللة والمغلوطة، بهدف زرع بذور الفرقة والشك بين هذه الدول وإضعاف التضامن العربي. إن فهم هذه الاستراتيجيات يكشف أن المخططات التوسعية تبدأ عادةً بمحاولة تفكيك الوحدة الداخلية للدول وإضعاف بنيتها الاجتماعية والسياسية، تمهيدًا للتدخل الخارجي المباشر.
هذه التصريحات والتهديدات، مهما بلغت حدتها وعدوانيتها، لا تثير القلق أو الخوف لدى الشعب الأردني وقيادته. فالأردن، بأرضه الطاهرة وشعبه الأبي وقيادته الحكيمة، يقف موحدًا كالبنيان المرصوص في الدفاع عن سيادته الوطنية وأمنه القومي. والجيش العربي الأردني، الذي سطر بدماء أبنائه الطاهرة أعظم ملاحم البطولة والفداء في أرض فلسطين المقدسة، يبقى الضمانة الأكيدة لحماية التراب الوطني من أي تهديد أو عدوان خارجي.
إن هذه الأرض المباركة التي احتضنت الشهداء وروتها دماؤهم الزكية، والتي شهدت أعظم المعارك في سبيل الحق والكرامة، ستظل حصنًا منيعًا لا يقترب منه معتدٍ إلا ومصيره الهزيمة والخسران المبين.