تخيل أن هناك من يقرأك دون أن تتكلم، يتنبأ بتصرفاتك دون أن تشرح، ويحلل مشاعرك من نبرة صوتك، من طريقة كتابتك، من حركات عينيك ليس صديقًا قديمًا ولا روحًا توأم، بل خوارزمية! في لحظة ما، وبينما تمارس حياتك الرقمية، ترسل رسالة، تشاهد مقطعًا، تبحث عن معلومة، تتوقف عند صورة يُكوّن الذكاء الاصطناعي صورة عنك، ليس فقط من كلماتك، بل من صمتك أيضًا، من توقيتك، من ترددك، من اختياراتك الدقيقة التي لا تلاحظها أنت. فهل يعني هذا أن عصر الخصوصية انتهى فعلًا؟
من السهل أن نشعر بالدهشة، أو حتى بالخوف. كيف يمكن لآلة، لا تملك قلبًا ولا ذاكرة ولا ماضٍ، أن «تفهمنا» بهذا العمق؟ كيف يمكن لخوارزمية أن تعرف أنك متعب، حتى وإن قلت إنك بخير؟ كيف تكتشف أنك حزين، رغم أنك تبتسم؟ الذكاء الاصطناعي لا يسألك «كيف حالك؟» بل يقرأ كل إشاراتك الدقيقة ويحللها، ثم يجيب نيابة عنك، أحيانًا قبل أن تدرك مشاعرك أنت نفسك. وهنا، تبدأ الأسئلة الأخطر: هل أصبحنا شفافين لدرجة أننا لم نعد نعرف أين تنتهي حدودنا، وأين تبدأ الخوارزميات في احتلال وعينا؟
لكن لنتأمل قليلاً. هذا التقدم المذهل في فهم السلوك البشري يمكن أن يكون نعمة عظيمة أو لعنة. من جهة، يمكن أن يساعد في اكتشاف الاكتئاب المبكر، في منع الانتحار، في حماية الأطفال من الخطر، في تقوية العلاقات، في بناء تجارب أكثر إنسانية. قد يكون الذكاء الاصطناعي أداة رحيمة، إذا ما وُجهت بدفء الإنسان ونبله. تخيّل أن تُستخدم خوارزميات المشاعر لا للتلاعب بك، بل لاحتوائك. أن تُستخدم تحليلات سلوكك لا لتسويق منتج، بل لإنقاذك من الوحدة. أن تُشغّل الكاميرات لا لتراقبك، بل لتحميك من نفسك حين تنهار.
ومع ذلك، فإن هذا الوجه المضيء لا يمكن أن يُخفي ظلّه. نحن نعيش في عالم كل ما فيه قابل للتتبع والتسجيل: كلماتك، عاداتك، اختياراتك، وحتى لحظات صمتك. يقال إن من يملك البيانات، يملك القوة. ولكن من يملك أن يُسيّر الذكاء الاصطناعي نحو الخير، هو من يملك القلب. الخصوصية ليست فقط فكرة قانونية، بل شعور داخلي بالأمان، بالاستقلال، بالحرية. حين يصبح كل ما فيك قابلاً للتوقع، هل يبقى لك شيء خفي، خاص، حر؟ هل يمكننا أن نحافظ على هذا الجزء المقدّس منّا، الذي لا تُمسّه الخوارزميات، ولا تقرأه الشاشات؟
الذكاء الاصطناعي ليس كائنًا خياليًا جاء ليسرق حياتنا، بل هو مرآة، ضخّمنا فيها أنفسنا. فإذا كانت الصورة مرعبة، فالخوف ليس من الذكاء، بل من الطريقة التي نستخدمه بها. لنسأل أنفسنا: هل نحن نُطوّر ذكاءً يراقبنا، أم يرافقنا؟ هل نُعلّم الآلات أن تُفكّر فقط، أم نُعلمها أن تُحسّ؟ وهل نسعى لتسليم قراراتنا لها، أم لتُعيننا على اتخاذ الأفضل؟
من الجميل أن يُفهم الإنسان، ولكن من المؤلم أن يُختزل. أن تُرى تفاصيلك، لكن تُستغل. أن تُكشف أسرارك، لكن تُباع. وهنا تكمن خطورة الذكاء الاصطناعي غير المؤطَّر بالقيم: يمكنه أن يكون رفيقًا، ويمكنه أن يكون سجانًا. الاختيار ليس له، بل لنا.
فلنحذر من الانبهار الأعمى، ومن الاستسلام السهل. لا نرفض الذكاء الاصطناعي، لكن لا نسمح له أن يُعيد تشكيلنا وفق مصلحته، أو مصلحة من يُسيّره. لنتعلم، لنبني، لنبادر، لكن لنحتفظ بمساحتنا الخاصة، بضعفنا البشري الجميل، بشعورنا الفريد، بأننا بشر.
في زمن الذكاء الاصطناعي، يصبح الحفاظ على إنسانيتنا مقاومة. أن تحافظ على خصوصيتك، على خيالك، على لحظة تأمل لا تُسجَّل، على فكرة لا تُحلّل، على دمعة لا تُفهرس هو أعظم انتصار.
عصر الخصوصية قد لا يكون انتهى، لكنه بلا شك تغير. ومع هذا التغير، أمامنا فرصة جديدة: أن نعيد تعريف الخصوصية، لا كجدران تُغلق، بل كمساحة تُصان. أن نستخدم الذكاء لا لكشف أرواحنا، بل لفهمها برحمة. أن نعلّم الخوارزميات شيئًا لم تُبرمج عليه بعد: أن تكتفي أحيانًا بعدم المعرفة، احترامًا لقدسية المجهول فينا.