نظام التوجيهي الجديد!

عملتُ في مدارس دولية، ودرّست مواد في النظامين الأمريكي والبريطاني، لذا فأنا على دراية بمناهجهما وامتحاناتهما الخارجية. ثم انتقلتُ للعمل في جامعة في الولايات المتحدة، مما منحني نظرة أوسع لربط تلك الأنظمة بالتعليم الجامعي الأمريكي، ومن ثم بسوق العمل. وبخبرة تتجاوز عشر سنوات في المجال التعليمي، يمكنني القول إن النظام الجديد ليس سوى خطوة عشوائية وتقليد أعمى للأنظمة الأمريكية والبريطانية، صاغه من أراد أن يترك بصمة في وزارة التربية والتعليم، لا أكثر.

الولايات المتحدة تمثل سوقاً ضخمة، تحتضن شركات عملاقة، تتجاوز ميزانيات بعضها ميزانيات عدد من الدول مجتمعة، وتتوفر فيه فرص عمل كثيرة في مختلف القطاعات. ويمكن القول إن المملكة المتحدة تسير على النهج ذاته. لذا صُمّمت الأنظمة الجامعية لتلبية احتياجات سوق العمل، ومن ثم بُني النظام المدرسي استنادًا إلى ذلك النظام الجامعي. أي أن النظام المدرسي ليس منفصلًا عن الجامعي، وسوق العمل هو جزء من منظومة متكاملة، حيث يدعم كل جزء ما يليه.

فأين هذا الترابط في المنظومة الأردنية بين التعليم المدرسي والتعليم الجامعي وسوق العمل؟

وبعيدًا عن الجانب الاقتصادي وسوق العمل والتكامل بين أطراف المنظومة، فالمشكلة لها بعد اجتماعي أيضًا. فما زال الطموح الأسمى لأي أسرة أردنية أن يصبح أبناؤهم أطباء أو مهندسين. وبالتالي ستكتظ شُعب المواد العلمية والصحية والهندسية، على أمل تحقيق هذه الأحلام، وسنعود في النهاية إلى انقسام الطلاب إلى علمي وأدبي كما في السابق.

أما من ناحية الأثر على الجامعات، فإن هذا النظام سيؤثر سلبًا على التعليم العالي، لأنه يبدو أسهل من النظام السابق. فمبدأ تقسيم المواد على سنتين، مع منح الطالب حرية اختيار بعضها، يجعل النجاح أكثر سهولة. ونتيجة لذلك ستكتظ الجامعات بالطلاب من ذوي القدرات المتوسطة، مما يصعّب مهمة التدريس ويقلل من كفاءته. كما من المرجح أن تزداد حالات الغش، كما هو حاصل في معظم الجامعات الأردنية حاليًا. وبدلًا من تطوير مناهج تلبي احتياجات سوق العمل أو البحث العلمي، سيضطر الأساتذة إلى خفض توقعاتهم بما يتناسب مع طلاب يطمحون فقط للنجاح.

أما فكرة أن الطالب في هذا النظام سيدرس مواد تساعده في الجامعة، فهي تعود بنا إلى مفهوم المنظومة المتكاملة. فلو أن المدارس، من الصف الأول وحتى العاشر، خرجت طلابًا متميزين، لما واجهوا صعوبات مع مواد الجامعة المتقدمة. وعليه، يجب الاستثمار في المراحل الدراسية المبكرة لبناء قاعدة تعليمية قوية تُمكّن الطالب من استيعاب المفاهيم المعقدة لاحقًا.

وبناءً على طبيعة الاقتصاد الأردني وسوق العمل، وعلى واقع الجامعات الأردنية، ينبغي أن يعود نظام التوجيهي إلى دوره كأداة غربلة، لا يخرج منها إلا من هو أهل للتعليم الجامعي. عندها فقط يمكن للجامعات تصميم مناهج وبرامج تعليمية تواكب تحديات سوق العمل، وتُخرج علماء قادرين على إجراء البحوث العلمية التي تمثل حجر الأساس في نهضة الأمم.

وفي ضوء ما تقدم، لا بد أن ندرك أن التعليم الجامعي ليس الطريق الوحيد للنجاح، وليس من الواجب على كل طالب أن يسعى لنيل درجة البكالوريوس. فالأردن، مثل أي دولة أخرى، بحاجة ماسة إلى عمال مهرة في الحرف والمهن، تمامًا كما يحتاج إلى أطباء ومهندسين. وقد تناولتُ هذا الجانب بشكل مفصّل في مقالي «تغيير جذري في الصف العاشر» في هذه الجريدة العريقة، حيث أكدت فيه ضرورة تركيز المناهج في هذه المرحلة على مادة التربية المهنية، بما يسمح للطلاب بتجربة عدد من الحرف واكتشاف شغفهم مبكرًا، بدلًا من حصرهم في المسارات الأكاديمية التقليدية.

فلا يمكن بناء اقتصاد متوازن ومجتمع قوي دون الحداد، والنجار، والمِيكانيكي، والكهربائي، وغيرهم من أصحاب الحرف التي تشكل عصب الحياة اليومية. علينا أن نعيد النظر في نظرتنا المجتمعية لهذه المهن، وأن نتيح الفرصة للطلبة لاكتشاف ذواتهم بعيدًا عن ضغط التوقعات الاجتماعية. فبناء الوطن لا يعتمد فقط على الشهادات، بل على المهارات والإرادة، وكلٌّ يخدم الوطن من موقعه.