من "دعه يعمل" إلى "ادعمه وراقبه": تحولات في العقل الاقتصادي العالمي

خمسون عاماً من العولمة كشفت عن مفارقة صادمة حين تخلت أميركا عن سياساتها الصناعية وفق نموذج السوق الحرة صاحب المقولة المشهورة «دعه يعمل دعه يمر»، في حين استغلت الصين الفرصة بذكاء لتصبح «مصنع العالم» عبر تدخل حكومي إستراتيجي. اليوم، تشير الأرقام إلى تراجع حصة الصناعة الأميركية في الناتج المحلي من 27 % عام 1950 إلى 10 % فقط، رغم بقاء أميركا ثاني أكبر دولة صناعية من حيث القيمة المضافة، بينما يتضخم عجزها التجاري مع الصين ليبلغ 296 مليار دولار.

الرئيس ترامب في عهدته الأولى مثل نقطة التحول من خلال التدخل الحكومي ذي الصبغة الحمائية، بأن فرض رسوم جمركية، أعاد التفاوض على اتفاقيات التجارة، وشجع على «إعادة توطين الصناعة « تحت شعارات مثل الأمن القومي الاقتصادي. ورغم الانتقادات، فإن هذه السياسات استمرت في عهد الرئيس بايدن، ولكن بأدوات مختلفة، لتعود الحمائية بوتيرة أعلى في عهدة الرئيس ترامب الثانية.

لم يعد ممكنًا الاعتماد على مبدأ «اليد الخفية» وحده في عالم يعج بالمخاطر الجيوسياسية، وسلاسل توريد هشة، وحروب تكنولوجية متصاعدة. فانطلقت مبادرة «صنع في الصين 2025» التي اعتمدت على الإعفاءات الضريبية، القروض الميسرة، والاستثمارات الهائلة في البحث والتطوير. ولكن بانتقائية ركزت على قطاعات إستراتيجية مثل الإلكترونيات، السيارات الكهربائية، والطاقة المتجددة. كما استخدمت «القوة الناعمة» كسلاح جيوسياسي من خلال حظر تصدير المعادن النادرة، التي تسيطر على 80 % من إمداداتها العالمية.

كذلك الاتحاد الأوروبي ورغم تمسكه التاريخي بالأسواق المفتوحة، انضم إلى هذا التوجه مؤخراً عبر إطلاق صندوق بقيمة 10 مليارات يورو لدعم الشركات الناشئة ومواجهة النفوذ الاقتصادي لأميركا والصين. ولا ننسى كوريا الجنوبية التي سبقت الجميع عبر دعم شركاتها الوطنية، مثل سامسونغ وهيونداي ضمن سياسة صناعية موجهة بدقة.

في ضوء ذلك، نشأت ملامح ما يمكن تسميته بـ «الرأسمالية الموجهة»: حيث يتجه العالم اليوم— ونأمل أن يكون الأردن من بين رواده — نحو نموذج الدولة التي تتدخل بذكاء لا بعشوائية، فتدعم من يستحق، وبالأداة المناسبة، في الوقت المناسب. دولة تحترم ديناميكيات السوق، لكنها في الوقت ذاته توجهها من خلال سياسات صناعية مدروسة نحو القطاعات الإستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية، مثل التكنولوجيا، الطاقة، الصناعات الدوائية والغذائية، والكيماويات الخضراء، مع ترك بقية القطاعات، كالسياحة والتجزئة والخدمات، لتخضع لمنطق السوق والمنافسة.

هذا لا يعني العودة إلى الاشتراكية، بل هو توجه نحو دولة إستراتيجية لا تكتفي بدور المنظم، بل تشارك في تحديد وجهة الاقتصاد وتخفيف المخاطر في القطاعات الحيوية؛ وربما تدخل في المشاريع الإستراتيجية التي يأنف القطاع الخاص عن ولوجها لعظم مخاطرها أو حاجتها لتمويل ضخم؛ عندها لا بأس من المساندة وربما الشراكة مع القطاع الخاص لحين إنجاحها ثم القفز مباشرة إلى مقعد الرقيب المنظم دون تردد.

هذا التحول العالمي ينبئ بانتهاء حقبة «دعه يعمل دعه يمر» وبداية حقبة جديدة يمكن وصفها بـ «ادعمه يعمل، وراقبه يمر»، فالسياسة الاقتصادية الناجحة اليوم ليست في ترك السوق وشأنه، ولا في السيطرة عليه بالكامل.

وربما يجدر، في ظل هذه التحولات الاقتصادية العالمية، أن تؤخذ هذه الاتجاهات بعين الاعتبار عند مراجعة رؤية التحديث الاقتصادي الصادرة عام 2022، خاصة وأنها تدخل هذا العام 2025 في مرحلة المراجعة الدورية المقررة بما يفتح المجال لتعزيز الجاهزية الوطنية ومواكبة المستجدات.