تهرول الأحداث الجِيوسياسية، يتسارع إيقاع الأيام، تإن الجراحات تحت وطئة الأحداث الدامية، نختبئ من مشهد الفقد وكأننا نهرب من لحظات الصّمت الأبدي، نركض فرحًا أو تَفاؤلا أو رغبةً بشراء جرعة أمل من منابر المُنجمين، أو محطات الفلكيين ومن يتحدث منهم بالماورائيات... بِتنا أكثر قُربا لحاضر نتمناه لكن طموحنا فيه هشٌّ مُتصدّع من واقع حقيقي نَترنح فيه بين الرضوخ أو المقاومة، بين الرغبة أو الحاجة.. ترددات أفكارنا أصبحت تشبه سوق الأسهم صعودا ونزولا . الإنسان في هذا العصر خسِر نفسه ورغباته إرضاءا لواقع فرض معادلات جديدة لا تشبه أي حقبة زمنية مضت. واقعٌ( ذَكِي) دفن معه طموحاتنا وأحلامنا وحتى كلماتنا ومشاعِرُنا....
نعم يا أصدقاء ما نعيشُه حاليا دفن ما حَلُمنا به ودرسنا لأجله وصقلنا طاقاتنا الكامنة وعملنا بجد واجتهاد لنصل إلى محطة نرى فيها ما زرعنا، لنرسو في ميناء سيُخلّد المسيرة، ويعزز العطاء ، ويحفظ الإرث.. نحن في زمن تضاءل دورنا فيه كبشر، تهمّش وجودنا بطريقة جعلتنا فاقدي الإرادة على ما نريد وما نحب.. حتى المشاعر استبدلت لتحل محلها أرقام وذبذبات وألوان لا تشبهنا ولا تشبه كينونتنا ولا انعكاس حواسنا..
لا أكتب هذا المقالة لمجرد الكتابة، بل أكتبه لأني فقدت جزءا كبيرا من شغفي ومن روحي التي كانت تفرح عند سماع مقطع موسيقي أو عندما أقرأ كتاب فلسفي أو تاريخي أو حتى نزهة في حديقة كنت أشعر فيها بالشجر والحجر والطير، أو جلسة في مقهى بصحبة القهوة وكأني امتلكت العالم. كل هذا تبدل الآن، متغيرات الحياة جعلتني أنأى بنفسي عن ما يعجبني لأقع فريسة تحت ما فرضته الحياة لنا بشيء لم نختره أو نقرره. لو لم نسير مع هذا التطور سنتخلف كثيرا لأن جميع من نتعامل معهم الآن هم أرباب الذكاء الاصطناعي وأسياده وإن لم تواكبه ستصبح جاهلا حتى كنت حاصلا على أعلى الشهادات العلمية.
نحن أمام طريق لا مفر منه، محفوفا بالمخاطر، أصبح الذكاء الاصطناعي بديلا عن الذكاء البشري وما هذا إلا مقدمة ليضمحل وجود الإنسان شيئا فشيئا حتى يصبح لا قيمة له.
أنا لست ضد العلم والتطور التكنولوجي، لكن عندما يزاحم هذا التطور الإنسان ووجوده نصبح بشر لا قيمة لنا، فاقدي الإرادة والعزيمة والقرار. أصبح العمل مشروطا بمتطلبات المرحلة التي قتلت الشغف والطموح والأداء البشري الطبيعي. التطور التكنولوجي الحاصل حاليا وتطور الإنسان الفكري والعقلي خطان متوازيان لا يلتقيان. التكنولوجيا حلّت محل الإنسان ودوره في التفكير والتخطيط والعمل. لذلك كلما زاد التطور كلما تضاءل دور الإنسان واضمحل شيئا فشيئا لنصل إلى ظِل الإنسان ومن ثم إلى أشلاء بشرية موجودة لكنها فاقدة للملامح.
تعلمت عبر الزمن بأن العقل هو من يتحكم ويسيطر على الأشياء، لكن فئة متحكمة في العالم أرادت بأن العقل الذي صنع الذكاء الاصطناعي هو نفسه سيصبح فريسة سيقع بين مخالب هذا الوحش الرقمي وتنهي وجوده في وقت معين على حسب ما يخططه ويرسمه صّناع القرار في العالم.
حتى الوباء أصبح صناعة لأهداف تجارية ربحية غير آدمية لدوافع مشبوهة ولا أريد الخوض قي تفاصيل هذا الموضوع الآن.
لذلك أقول مرة أخرى أنا لست ضد التطور التكنولوجي مع العلم بأني جزءا من عملي في مجال الذكاء الاصطناعي كفرد يسعى بأن يواكب المرحلة حتى نعلم ما يجري في سبيل محو الأمية الرقمية وحتى نستمر بالعيش الذي يتطلب منا بأن نكون جزءا من هذا البناء الكبير.
حتى الحرب أصبحت ذكية وذكاؤها امتد ليقضي على الإنسان وهو في عقر داره ولربما يكون في نزهة، قنبلة ذكية قد تصل الى هدفها بكبسة زر ويُصبح الإنسان عبارة عن كومة من اللحم المحروق، طائرة مُسيّرة ذكية صغيرة جدا تعمل مسحًا كاملاُ لبيتك وماذا تأكل ومع من تجلس! امتد هذا الذكاء ليُصبح حتى الموبايل أداة تتجسس عليك وتسمع كلامك وتساؤلاتك لتجد ما كنت تبحث عنه منشورا على منصات التواصل الاجتماعي كإعلانات، أيضا امتد هذا الذكاء لتصبح قيمتك مرهونة بأعداد متابعينك بمعزل عن مضمون ما تقدم وما تسعى له فصَعد الهابط مضمونا ونزل القيّم فِكرا.
نحن الآن في زمن خطير جدا وخطورته تنبع من فقداننا للهوية في سبيل العيش الذي يتطلب مواكبة التطور وما يسعى اليه أغلب البشر. دعوتي الآن لن توقف هذا الخطر ولا قطار التطور لكن على الأقل عندما نعي حجم الكارثة يصبح الوعي والتصحيح أكبر.. لا أعلم إن كنت أبالغ بمخاوفي وهَواجسي! لكن أنا إمرأة تعتبر نفسها تقف في منتصف هذه الفترة الزمنية وشهٍدت الحياة ما قبل هذا التطور وايضا سارت مع التطور الحالي أجد نفسي شاهدا على التغيير الخطير والمرحلة الأصعب في حياة البشر.
أما بعد،
فإما أن نّدرك مخاطر الانجرار وراء هذا (العالم الذكي) ونحفظ لأنفسنا كبشر خط الرجعة للحفاظ على ما تبقى من علمنا وفكرنا والأهم على وجودنا، أو نرحل ونحن على قيد الحياة، أو نستمر نحو المجهول....!