الاختلال الاستراتيجي .. نظرة فاحصة في أسبابه وطرق مواجهته


المهندس خالد بدوان السماعنة
هنري منتسبرغ ‏ - وهو كاتب وأكاديمي كندي رائد ومن أشهر دراساته ما كتبه حول أنماط الهياكل الإدارية – "هنري" وبعد الكثير من البحث اكتشف أن صياغة الإستراتيجية ليست عادة عملية منتظمة ومستمرة: "إنها في أغلب الأحيان عملية غير منتظمة وغير مستمرة (متقطعة) تقف ثم تعاود المسير". 

هذا يقودنا لقناعة مفادها أنه قد يكون هناك فترات من الاستقرار في تطوير الإستراتيجية، ولكن هناك أيضًا فترات تتسع الفجوة بين احتياجات عملائك وخدمات أو منتجات منظمتك بشكل أكبر، ليبدأوا البحث في مكان آخر، وغالبًا ما تكون التغييرات المطلوبة هنا كبيرة - مثل إعادة الهيكلة التنظيمية أو الاستثمار في أسواق أو سبل جديدة-. أو هناك تلك الحالة من عدم اليقين أو التردد أو انعدام الثقة فتغدوا المنظمة تتلمس طريقها، أو ما يفرضه التغير العالمي. ويمكن تفسير هذه النظرة إلى صياغة الإستراتيجية وكونها عملية غير منتظمة من خلال فهم الميل البشري للاستمرار في مسار عمل معين إلى أن يحدث خطأ ما، أو يضطر الشخص إلى التشكيك في أفعاله.

ليس من البعيد أن تصبح استراتيجية المنظمة غير متوافقة مع بيئتها (الاختلال الاستراتيجي) وقد ينجم ذلك عن قلة الوعي والاهتمام ببيئة الأعمال التي أنت جزء منها، والفشل في تعديل استراتيجيتك وفقًا لذلك (الرضا عن النفس)، أو قد يكون ذلك ناجما عن التشبث بما أنت عليه، والتردد في تغيير العمليات أو الاستراتيجيات التي تستخدمها بالفعل (مقاومة التغيير). ولربما يكون ذلك ناجما عن الفشل في التوقعات أو التكهن بدقة بشأن التغييرات المحتملة داخل بيئة عملك (غياب الرؤية الاستراتيجية). أو لعله عدم القدرة – بغض النظر عن السبب- على تنفيذ استراتيجيتك بشكل صحيح.
الخلاصة: هذه الفترة من الاختلال الاستراتيجي تنجم عن الجمود من جانب المنظمة، أو قد تعكس اعتقاد الإدارة بأن الاستراتيجية الحالية لا تزال مناسبة وتحتاج فقط إلى بعض التعديل الطفيف، لتجد المنظمة نفسها أمام خيارين –أحلاهما مر- أحدهما: تبني الحاجة إلى التحول واتخاذ قفزة من نوع ما، والثاني: التمسك بالاسترتيجية الأصلية. وكلا الخيارين يواجه خطر الفشل – إذ ليس هناك ما يضمن أن التغييرات التحويلية ستؤتي ثمارها، حتى لو كنت ستركز على مواءمة مؤسستك بشكل أفضل مع أهدافها. لكن تبقى المحاولة خير من رفض التغيير تمامًا والعيش في عالم من الأماني والأمل في تحسن الأمور، وهو الأمر الأكثر خطورة!. ففي نهاية المطاف فعل الشيء نفسه وتوقع نتائج مختلفة هو خير تعريف للجنون. 

يجب أن تحاول المنظمة التحول في استراتيجيتها، فقد يحالفها النجاح، فتصبح أقوى وأكثر قدرة على المنافسة. ليبقى المفتاح هو الاستجابات الذكية والإبداعية للانحراف الاستراتيجي.

من الأمثلة الواقعية على الاختلال الاستراتيجي ما حدث مع شركة تصنيع الهواتف المحمولة السابقة (نوكيا)، تلك الشركة التي هيمنت على هذه الصناعة في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكانت استراتيجية نوكيا الأصلية إنتاج هواتف محمولة عالية الجودة وموثوقة وبأسعار معقولة، مع التركيز بقوة على تصنيع الأجهزة. لكنهم ومع تحول الصناعة نحو الهواتف الذكية والإنترنت عبر الهاتف المحمول، فشلت نوكيا في التكيف بسرعة. وبدلاً من ذلك، ركزت على الأجهزة مع تجاهل أهمية البرامج والتطبيقات. وفي النهاية أدى هذا الاختلال الاستراتيجي إلى تراجع شركة نوكيا، واستحوذت مايكروسوفت على الشركة في عام 2014. ليسلط مثال نوكيا الضوء على مخاطر الاختلال الاستراتيجي وأهمية التكيف مع ظروف السوق المتغيرة. ويبقى السؤال الملح:هل كان بإمكانهم اتخاذ طريق مختلف؟.

ونفس الشيء حدث مع شركة الكاميرا والأفلام السابقة (كوداك) والتي كانت استراتيجيتها الأصلية تقوم على إنتاج أفلام فوتوغرافية عالية الجودة وأي منتجات لها صلة بذلك. لكن هذه الشركة فشلت في التكيف بسرعة كافية مع ظهور التكنولوجيا الرقمية وظهور الكاميرات الرقمية والهواتف الذكية. فبدلاً من أن تتبني التكنولوجيا الرقمية والانتقال إلى التصوير الرقمي، ركزت كوداك على أعمالها السينمائية، مما أدى إلى الاختلال الاستراتيجي الذي أدى في النهاية إلى تراجع كوداك، وإعلان إفلاسها عام 2012. بعبارة مختصرة: كوداك لم تر الصورة الأكبر. ومثال شركة كوداك يسلط الضوء على أهمية التعرف على التغيرات في التكنولوجيا، وظروف السوق، والتكيف معها. وأن الشركات التي تفشل في تعديل استراتيجيتها مع الظروف المتغيرة ستخاطر بالتخلف عن منافسيها، وقد تواجه في النهاية انخفاضًا في الأداء أو حتى الفشل.

تميل معظم المنظمات الكبيرة إلى اتباع توجه استراتيجي معين ولمدة تتراوح بين 15 إلى 20 عامًا قبل إجراء تغيير كبير في الاتجاه. ويحلو للبعض أن يطلق اسم "التوازن النقطي" ليصف ما يحصل مع المنظمات التي تتطور خلال فترات طويلة نسبيًا من الاستقرار (فترات التوازن) تتخللها فترات قصيرة نسبيًا من التغيير الأساسي (الفترات الثورية). فبعد الفترة الطويلة -نسبيا -من المعايرة الدقيقة للاستراتيجية الحالية، يصبح النظام بحاجة إلى صدمة أو حدث من نوع ما لتحفيز الإدارة على إعادة تقييم وضع المنظمة بشكل جدي. هذه الصدمة أو الحدث يعمل بمثابة حافز لتغيير الإستراتيجية. 

قد يكون هذا الحدث على شكل رئيس تنفيذي جديد! والذي يخترق حجاب الرضا عن النفس ويجبر الناس على التساؤل عن السبب وراء وجود الشركة. أو قد يأتي على شكل تدخل خارجي، فيرفض البنك المعتمد لدى المنظمة –فجأة- الموافقة على قرض جديد، أو لعله يطالب فجأة بالسداد الكامل لقرض قديم. أو ربما قد يشكو أحد العملاء الرئيسيين من وجود عيب خطير في المنتج. أو حدوث تهديد بتغيير الملكية ! فتبدأ شركة أخرى عملية استحواذ عن طريق شراء الأسهم العادية للشركة. أو إذا باتت المبيعات والأرباح لا تتزايد أو ربما تنخفض. أو حدوث فجوة في الأداء بحيث أصبح لا يلبي التوقعات. أو كما صاغها "آندي جروف" الرئيس التنفيذي السابق لشركة إنتل فأطلق عليها " نقطة الانعطاف الإستراتيجية" وهو حين يحدث تغيير كبير في المنظمة بسبب إدخال تقنيات جديدة، أو بيئة تنظيمية مختلفة، أو تغيير في قيم العملاء، أو تغيير في ما يفضله العملاء.

وكمثال على نقطة الانعطاف الاستراتيجية -والتي أجبر فيها حدث مثير الإدارة على إعادة التفكير بشكل جذري في ما كانت تفعله- ما كتبته مجلة الإيكونوميست (2 فبراير/شباط 2008) تحت عنوان "الإرث الذي ترك على الرف" وملخصه يكمن في ما حدث مع شركة "يونيليفر بي إل سي" البريطانية ثاني أكبر شركة للسلع الاستهلاكية في العالم، وذلك حين تلقت الشركة هزة في عام 2004 عندما انخفض سعر سهمها بشكل حاد - بعد أن كانت الإدارة قد حذرت المستثمرين من أن الأرباح ستكون أقل من المتوقع-. وعلى الرغم من أن الشركة كانت أول شركة سلع استهلاكية تدخل الاقتصادات الناشئة في العالم في أفريقيا والصين والهند، وأمريكا اللاتينية مع مجموعة هائلة من المنتجات والمعرفة بالبيئات المحلية، تعثرت مبيعاتها عندما بدأ المنافسون في مهاجمة مكانتها الراسخة في هذه الأسواق. فكان استحواذ شركة بروكتر آند جامبل (P&G) على جيليت (Gillette) قد عزز بشكل كبير محفظة P&G المتنامية من العلامات التجارية العالمية، مما سمح لها بتقويض حصة يونيليفر في السوق العالمية. لدرجة أنه وعندما استهدفت شركة (P&G) الهند بمبادرة مبيعات في الفترة 2003-2004، انخفضت هوامش الربح في الشركة الهندية التابعة لشركة يونيليفر من 20% إلى 13%.

قامت شركة يونيليفر –مباشرة- بمراجعة متعمقة لعلاماتها التجارية والتي كشفت أن أداء علاماتها التجارية كان جيدًا مثل أداء منافسيها. هناك خطأ ما في مكان آخر !!.

رئيس استراتيجية الشركة في شركة يونيليفر "ريتشارد ريفرز "يصرح: "لم نكن ننفذ أعمالنا كما ينبغي". ولتدرك إدارة شركة يونيليفر أنه لم يعد أمامها خيار سوى إعادة هيكلة الشركة من الأعلى إلى الأسفل. فعلى مدار عقود من العمل في كل دول العالم تقريبًا، أصبحت الشركة ممتلئة بالبيروقراطية والتعقيد غير الضروريين. وكان التركيز التقليدي لشركة يونيليفر على استقلالية مديريها القطريين قد أدى إلى الافتقار إلى التآزر، و إلى ازدواجية الهياكل المؤسسية. وكان مديرو البلدان يتخذون قرارات استراتيجية دون النظر إلى تأثيرها على المناطق الأخرى أو على الشركة ككل. 

تم العمل بدءًا من القمة، فتم استبدال رئيسين برئيس تنفيذي واحد. وفي الصين، تم استبدال ثلاث شركات تضم ثلاثة رؤساء تنفيذيين بشركة واحدة يرأسها شخص واحد. وتم اتخاذ قرار بخفض إجمالي عدد الموظفين لينخفض من 223.000 في عام 2004 إلى 179.000 في عام 2008. وبحلول عام 2010 خططت الإدارة لإغلاق ما يقرب من 50 من مصانعها الـ 300، وإزالة 75 من 100 مركز إقليمي. وتم اختيار عشرين ألف وظيفة إضافية ليتم إلغاؤها على مدى أربع سنوات لاحقة. ليبدي "رالف كوجلر" -مدير قسم العناية المنزلية والشخصية في شركة يونيليفر- ثقته في أنه بعد هذه التغييرات، أصبحت الشركة أكثر استعدادًا لمواجهة المنافسة، وليقولها بكل ثقة:" نحن الآن أفضل تنظيما للدفاع عن أنفسنا".