لا تندهش إذا دعوت أحد الصينيين في بيتك ثم رأيته يسألك.. لماذا تترك تلك الغرفة هناك مضاءة وليس فيها أحد؟
ولا تعجب إذا سألك على استحياء: لماذا تترك بقايا طعام في طبقك؟
هو لا يقصد التدخل في شئونك ولا يريد إحراجك، ولكنه يعبر عن قناعاته ومبادئه التي أصبحت جزءاً من شخصيته..
والصينيون لا يجدون أي حرج إذا تناولوا الطعام في المطاعم أن يطلبوا من العاملين وضع ما يتبقى منه في أطباق خاصة أو أكياس يحملونها معهم إلى البيت..
وهم ليسوا بخلاء، بالعكس هم من الشعوب الشرقية المتصفة بالجود وإكرام الضيوف، ولكنها ثقافة عدم الإهدار.
وفي كتابه "أحاديث في آسيا" يرى الأستاذ محمد حسنين هيكل أن أحد أسباب النهضة الصينية الحديثة أنه لا يوجد فاقد أو عادم أو ضائع في أي شيء بالصين، ويروي واقعة طريفة عندما زار الصين في الستينيات ودعوه لتناول الطعام في أحد مطاعم بط بكين المشوي، ووجد أنهم خصصوا طبقاً لكل جزء من البط، بما في ذلك اللسان والعظام والرأس والكبد ..
وحين قال لهم: لم يتبق إلا الريش وأرجو ألا نأكله.. أجابوه: المطعم يبيع الريش الذي يستخدم لأغراض صناعة..
والعالم قد احتفل هذا الأسبوع بيوم الغذاء، ويوم القضاء على الفقر، بهدف رفع الوعي بمكافحة الجوع ومعاناة الجياع والفقراء، أما الصين فقد احتفلت باليوم الوطني السابع لتخفيف الفقر، حيث دعا الرئيس شي جين بينغ إلى بذل جهود مستمرة لتحقيق نصر كامل في المعركة ضد الفقر.
والصين التي نجحت في إخراج ثمانمائة مليون شخص من دائرة الفقر منذ إعلان الجمهورية في أكتوبر عام 1949م، على وشك أن تعلن خلوها تماماً من الفقراء بنهاية عام 2020م، قبل الموعد الذي حددته الأمم المتحدة في أجندتها للتنمية المستدامة 2030م بعشر سنوات، وهو إنجاز تاريخي غير مسبوق على المستوى العالمي.
كما خصصت الحكومة هذا الأسبوع للتوعية بقيمة الحفاظ على الغذاء وتجنب الهدر، وهي دائماً تدعو أبناءها إلى عدم الإسراف فيما يتصل بنفقات الطعام، وتفرض على مؤسساتها الرسمية الاعتدال والاقتصاد في هذا الشأن، خاصة أثناء الفعاليات والنشاطات التي تقيمها.
والدولة التي شهدت مجاعة كبرى في خمسينيات القرن الماضي، أودت بحياة ملايين البشر، بسبب نقص المحاصيل الزراعية في ذلك الوقت، تعلمت الدرس جيداً، فكان هناك حرص متواصل على ضمان الأمن الغذائي واعتباره أولوية الأولويات.
ووفقًا للأرقام الرسمية الصادرة عن الجهات المختصة، فإن كمية الطعام المهدور تكفي لإطعام ما بين 30 إلى 50 مليون شخص سنويًا، كما أن المواطن الصيني يهدر في كل وجبة نحو 93 جرامًا من الطعام في المتوسط.
وفي مواجهة هذا أطلق الرئيس شي حملة "الأطباق النظيفة"، لرفع الوعي بقيمة الطعام والحرص عليه وعدم الإسراف فيه، وجعل ذلك سلوكاً حضارياً جماعياً يومياً.
وتنتشر الآن في كثير من المطاعم لوحات إرشادية تدعو إلى عدم إهدار الطعام، وهناك كلمة يستخدمونها كثيراً هي "لانغ في" (Lang fei) على سبيل التحذير والتنبيه، وتعني الهدر أو الفاقد، فإذا رأوك تضيع شيئاً ولا تستفيد منه حتى لو كان حبات قليلة من الأرز أو بعض الطعام يقولون لانغ في.
وثمة تلاق وقواسم مشتركة كثيرة بين القيم العربية والصينية في هذه النقطة، فالإسراف والتباهي بكثرة الطعام من القيم المذمومة في الإسلام ..
وهدر الطعام يمثل أحد المهددات الكبرى للأمن الغذائي العالمي، كما يؤدي إلى زيادة عدد المحتاجين والفقراء والجياع حول العالم، وكثير من الدول تحاول سن قوانين وتشريعات لوقف هذه الظاهرة أو على الأقل الحد منها، والعديد من دولنا العربية تشكو من هذه الظاهرة التي تنافي الفطرة السليمة، وتتسبب في ضياع مليارات الدولارات كل عام، والمسئول عنها في الغالب سلوكيات البشر الخاطئة..
وترى الأمم المتحدة على موقعها الإلكتروني الرسمي أن الجزء الذي يفقد من الغذاء بين مرحلة الحصاد حتى مرحلة البيع بالتجزئة، وليس ضمنها، يسمى الفاقد من الغذاء، أمّا الجزء الذي يُهدر على مستوى المستهلك أو البيع بالتجزئة، فيسمّى المهدر.
وتلفت إلى أن هناك 690 مليون شخص يعانون من الجوع، في عالم ينتج من الغذاء ما يكفي لإطعام جميع البشر في كل مكان، إلا أن أطناناً من الأغذية الصالحة للأكل تُفقد يومياً، أو يتم هدرها في المرحلة الممتدة بين الحصاد والاستهلاك.
وقالت المنظمة الدولية، في تغريدة على تويتر بمناسبة اليوم العالمي للطعام، "يمكننا جميعًا المساعدة في تقليل هدر الطعام، عن طريق وضع خطة أسبوعية للوجبات، داعية إلى الإبداع في وصفات الطعام، وأكل ما يتبقى منه" .