تأملات عربية في التجربة الصينية (2) الإنسان.. سر المعجزة


بقلم صلاح أبوزيد

ثمة نجاحات كثيرة أُحرزت عبر مسيرة ال 71 عاماً، منذ إعلان قيام جمهورية الشعبية في الأول من أكتوبر عام 1949م حتى أول اكتوبر 2020م، تأتي في مقدمتها بالطبع الطفرة الاقتصادية أو المعجزة الاقتصادية كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، التي جعلت الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد وأكبر مُصدّر في العالم، بل الاقتصاد الذي يقود قاطرة التنمية في الدنيا كلها..
والصين تصدِّر في اليوم الواحد الآن أكثر من مجموع ما صدرته طوال عام 1978م، 
كما بلغت مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي 27.5%، في عام 2018م.
وتشير تقارير المكتب الوطني للإحصاءات إلى أن اقتصاد الصين تضاعف نحو 452.6 مرة خلال الفترة من عام 1952م إلى 2018م، من 30 مليار دولار إلى 13.61 تريليون دولار، فيما تضاعف 42 مرة منذ عام 1980 حتى عام 2017م.
وقفز حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني من 305 مليارات دولار في عام 1980م إلى (99.1 تريليون يوان) أي نحو 14.38 تريليون دولار أمريكي في عام  2019م، 
حسب تقرير أعمال الحكومة لعام 2019/ 2020، الذي أوضح أن نصيب الفرد من الدخل القابل للإنفاق وصل إلى 30 ألف يوان سنوياً، متخطياً عتبة ال10 آلاف دولار.
وهذه الأرقام الهائلة التي تصيب الرأس بالدوار تدفع أيضاً إلى التساؤل عن أسرار النهضة الصينية المعاصرة وكيف يمكن استلهامها والاستفادة منها، فيرى باحثون أنها تحققت بفضل الاستثمارات الهائلة التي تدفقت على الصين من الخارج واستعارة التكنولوجيا الغربية، بعد أن أطلق الزعيم دينغ شياو بينغ عام 1978م سياسة الإصلاح والانفتاح بادئاً بإصلاح قطاع الزراعة، حيث تم التخلص من نظام العمل الجماعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين، الذين أصبح من حقهم اختيار المحاصيل التي يرغبون في زراعتها وجني ثمار ما غرسوه ورووه بعرقهم وكدهم، فتضاعف الإنتاج مرات في غضون عدة مواسم، لينتقل الحال من الندرة والعوز والوقوف على حافة المجاعة أحياناً إلى الوفرة والرخاء والاكتفاء الذاتي وضمان الأمن الغذائي.
ويرى البعض أن الفضل يرجع إلى الإدارة الذكية الواعية للإمكانات البشرية والطبيعية، وإطلاق العنان لاقتصاد السوق بعيداً عن الاقتصاد الموجه المحكوم من قبل الدولة، ويعزو آخرون السبب إلى استغلال نقاط القوة في الاقتصاد الصيني وتعزيزها وتبادل الخبرات بين مختلف أرجاء البلاد، ناهيك طبعاً عن رواد الأعمال الصينيين وأصحاب الأفكار الأوائل الذين تلقفوا دعوة دينغ شياو بينغ وآمنوا بها ومضوا على دربها وأنشأوا مشروعاتهم الخاصة التي بدأت متواضعة للغاية ربما مجرد ورشة أو مزرعة بسيطة أو محل تجاري صغير، ولكنْ كان وراءها طموح غير محدود وعمل متواصل وبيئة مواتية، فكبرت هذه المشروعات على مر السنين وتحولت إلى كيانات اقتصادية عملاقة وعلامات تجارية مرموقة، وهناك الآلاف من هؤلاء، وبينهم سيدات كثيرات، وتصلح قصة كل واحد منهم نموذجاً مبهراً للنجاح والتحدي ومشروعاً لفيلم مثير.. 
وكل هذا دون شك صحيح في مجمله، فالنهضة الصينية الحديثة ليس وراءها سر واحد بل اجتمعت لها أسباب وظروف كثيرة، كان في مقدمتها الإرادة الصلبة والرغبة القوية في تحقيق الهدف المحدد..  
وأنت أيها الصديق العزيز إذا سألتني عن رأيي المتواضع، فأقول لك بعد أن عشت في الصين بعض الوقت، إن الصينيين لديهم مثابرة عجيبة على النجاح وإصرار متواصل على تحقيق الأهداف، وهم أصحاب نفس طويل وهمة عالية لا يصيبهم الكلل أو الملل، وهم أيضاً منظمون جداً، وإذا وضعوا جدولاً للعمل نفذوه بكل دقة ودون تهاون، وهم ذوو مواهب وأصابع ماهرة وصفها بعضهم بأنها "أنامل لها عيون"، وقد تحدث الرحالة العربي الأشهر ابن بطوطة، الذي زار الصين قبل أكثر من ستة قرون،  وله تمثال كبير في مدخل المتحف البحري بمدينة تشوانتشو (مدينة الزيتون كما سماها في كتابه تحفة النظار) جنوب البلاد، عن مهارتهم في الرسم الذي لا يجاريهم فيه أحد، وحكى عن اهتمامهم بالتجارة مع الخارج وتأمينها والحفاظ على سلامة التجار الأجانب وأموالهم بدقة وصرامة..
والمعنى أن النهضة الصينية المعاصرة ليست وليدة المصادفة وليست بنت اليوم فقط، بل هي ابنة شرعية لتاريخ طويل من القيم والمباديء والأعراف الراسخة في الوجدان التي تحترم العمل وتقدر أصحاب المواهب وتحتفي بهم.