يُعدُّ النجاح المذهل الذي حققته الصين في مجال القضاء على الفقر تجربة إنسانية مؤثرة وملهمة ..
وقد شغل موضوع انتشال ملايين البشر من براثن الفقر الكثير من الباحثين والمراقبين حول العالم، باعتباره انعكاساً لما حققته النهضة الصينية الحديثة وأثراً واقعياً ملموساً لها.
فقد كان الفقر المدقع يضرب أرجاء البلاد ويعشش في معظم البيوت، وأكثر من ثلثي سكان الصين كانوا يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، وكان توفير الطعام حلماً يومياً كبيراً وهماً ثقيلاً على أغلب الأسر..
ومنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949م حتى اليوم، انتُشل أكثر من 800 مليون شخص من دائرة الفقر، وخلال مسيرة الإصلاح والانفتاح التي انطلقت عام 1978م وقادها الحزب الشيوعي الصيني بمهارة ونجاح خرج 700 مليون فقير من براثن الفقر، ما ساهم في الحد من الفقر العالمي بأكثر من 70 ٪ (حسب تقارير الأمم المتحدة).
وفي عام 2019م وحده تم إخراج 11.09 مليون شخص من سكان المناطق الريفية من دائرة الفقر، وانخفضت نسبة الفقر إلى 6. %، ووصل عدد الفقراء إلى 5.51 مليون شخص فقط.
ويرى المراقبون أن هؤلاء الفقراء الذين لا يرقى عددهم إلى 6 ملايين شخص لا يمثلون مشكلة كبيرة لاقتصاد الصين الهائل والمتنوع، إلا أن إتمام هدف القضاء على الفقر، الذي حددته الدولة بنهاية عام 2020م، يشكل في حد ذاته خاتمة عظيمة لمسيرة كفاح عمرها من عمر جمهورية الصين الشعبية.
ولنا هنا أن نذكر للفائدة أن محاربة الفقر في الصين اتخذت عدة صور، منها الدعم النقدي والعيني للأسر الفقيرة العاجزة تماماً عن الكسب، وفتح مجالات التعليم والترقي أمام أبناء الفقراء، وتوفير فرص العمل والتوظيف الملائمة، وإعادة توطين قرى بأكملها في أماكن مناسبة، حيث كانت هناك مئات القرى في مناطق جبلية مقطوعة أو أماكن معرضة لخطر الزلازل والفيضانات، فتم نقل السكان إلى مناطق أخرى مناسبة للسكن والعمل والإنتاج..
وجرى شق الطرق الحديثة المرصوفة وإدخال شبكات الكهرباء والماء النظيف والإنترنت ومرافق الصرف الصحي إلى كل مكان تقريباً، ما ساهم في إحداث نقلة حضارية هائلة في الريف الصيني.
كما جرى نشر آلاف الكوادر المؤهلة من الحزب الشيوعي في القرى النائية والأرياف البعيدة ليدرسوا ويحللوا أسباب الفقر ويضعوا خططاً تنموية تتناسب مع ظروف المكان والإنسان، فإذا كانت قرية ما تُشتهر بإنتاج محصول معين أو فاكهة ما أو ماهرة في حرفة بعينها يجري دعمها من قبل الدولة وتشجيعها وتدريب العمال على أسس علمية والترويج لما ينتجونه في مختلف أرجاء البلاد خاصة عبر التسويق الإلكتروني الذي أصبح إحدى السمات الدافعة للتنمية الصينية في الآونة الأخيرة، أو كانت القرية أو المدينة أو المقاطعة تضم معالم سياحية مشهورة أو مناظر جميلة فيجري دعم السياحة وتشجيعها لتصبح قاطرة لتنمية المكان وتخليص أهله من الفقر.
وكمثال على طريقة التفكير هذه ومدى فاعليتها، محافظة نينغدو بمقاطعة جيانغشي جنوبي الصين، التي كانت فقيرة وأغلب سكانها يعانون شظف العيش، ولكنهم كانوا بارعين في إنتاج نوع من الدجاج أصفر اللون، يحظى بإقبال الناس، فدعمت الدولة هذه الصناعة بقوة، ويعمل بها الآن أكثر من 20 ألف شخص من إجمالي عدد السكان المحليين الذي يبلغ عددهم ما يزيد عن 800 ألف نسمة، ووصل إنتاجهم إلى 90 مليون دجاجة صفراء سنوياً، محققين إنتاجية تصل قيمتها إلى 2.7 مليار يوان صيني.
ورغم الضربة القوية التي تعرض لها الاقتصاد الصيني بفعل كوفيد19 والظروف العالمية المتقلبة، والاحتكاكات التجارية التي تثيرها الولايات المتحدة وتُصاعِد وتيرتها من حين لآخر، أكد الرئيس شي جين بينغ مراراً وتكراراً على أن هدف القضاء على الفقر سيتحقق في موعده المقرر سلفاً أي في عام 2020م، ولن يترك فقير واحد في دائرة الفقر، لتنجز الصين الهدف الرئيس لأجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030م قبل الموعد المقرر بعشر سنوات.
ولا ننكر بالطبع أن التنمية الاقتصادية وما حققته الصين من مكاسب هائلة من التصنيع والتجارة الخارجية كان له دور كبير في إخراج الملايين من الفقراء من دائرة الفقر، إلا أن تدريب الفقراء وتأهيلهم وتغيير نمط تفكيرهم وحياتهم واستغلال مقومات المناطق الفقيرة وتعزيز نقاط قوتها والاستفادة منها بكل الوسائل كان العامل الأكثر جاذبية في هذه الملحمة..
وفي الختام تبقى التجربة الصينية كتاباً مفتوحاً ومتاحاً، ومعيناً لا ينضب من الخبرات المبذولة للجميع مجاناً، وتستطيع الدول التي لها ظروف مشابهة أن تستفيد منها في بناء نموذجها الخاص وتطويره.