أتابع باهتمامٍ شديد مؤخراً تدحرج أزمة المعلمين مع الحكومة، كوني ولأعوام أتابعُ أزمة المعلمات والمعلمين مع الحكومات المتعاقبة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، فمنذ بدأتُ العمل في الشق الاجتماعي من التنمية، ومنذ بدأتُ كذلك أتواجد في العمل العام، وإشكاليتهم قائمة، حتى أني أظن أنه لا يمكن لمن عمل في مجال المسوحات الميدانية والمساعدة الاجتماعية ومن زار المحافظات والمخيمات وقرى الأردن وحتى الكثير من مناطق العاصمة، إلا أن يتابع تردّي حال الهيئات التدريسية تزامناً مع تردي حال المدارس والمؤسسات الاجتماعية من جهة، وتأخّر وتعثّر الوضع الاقتصادي وتأثُّر المواطنين بكل ذلك من جهة ثانية.
وضع المعلمين الاقتصادي ومن خلفه الاجتماعي صعبٌ جدّاً، وإنكار هذه الحقيقة يراكم الأزمة ويزيد الاحتقان مجاناً، ويحوّل حوارنا بإصرارٍ لحوارٍ أقرب لحوار العميان الذين لا يرون الواقع ولا يريدون تصديقه والإقرار به، والأخطر أنهم يصرّون على خلافه ونقيضه، دون أدلة حقيقية.
من هنا يصبح على المحلل لأزمة المعلمين الإقرار بدايةً بأن وضع معلمي القطاع الحكومي مؤسف فعلاً، وأن إصلاح أوضاعهم الاقتصادية بات ضرورة لإصلاح التعليم الذي أبدى فيه جلالة الملك كل الاهتمام منذ البداية، إضافة إلى أن إصلاح أوضاعهم يسهل علينا المضي بأهداف التنمية البشرية الأممية في الأردن إلى جانب الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية التي أطلقتها جلالة الملكة رانيا العبد الله منذ ثلاثة أعوام وكان رئيس الحكومة الحالي الدكتور عمر الرزاز أحد أهم العاملين عليها.
إذ تبدأ التنمية البشرية أصلاً من تلبية الاحتياجات الرئيسية والاساسية للمعلم الذي يربي ويعلّم موارد المملكة البشرية القادمة، ثمّ يأتي أيضا بتأهيله وتحفيزه على الإنجاز والارتقاء بمستوى العملية التدريسية ككل.
لن أطيل أكثر، ولكن المعلّم "المديون" لن يفكّر في طلبته قدرما في أبنائه مهما حاول، ولن يستفيد الوطن من معلمين بهذه الحالة، بل على العكس قد نخسر جميعاً. بالمقابل ندرك جيدا حال الخزينة في الدولة التي تئنّ ليس بسبب العجز من وجهة نظري، ولكن أكثر بسبب التباين الكبير في الرواتب والحوافز بين المعلمين وغيرهم من موظفي الدولة الرازحين في الطبقة المتوسطة الدنيا وبين كبار الموظفين من الطبقة العليا، وهنا أظنّ أن تقليص الفرق بين الطبقتين هو الأجدى للجميع، وليس فقط التعذّر لأصحاب الرواتب المتدنية.
وعليه فإن حكومة الدكتور الرزاز اليوم أمام فرصة تاريخية لتغيير شكل الانفاق العام عبر تقليص التباين بين طبقات الموظفين العامين برفع الحد الأدنى للأجور بنسبة معقولة قد تصل لـ 30% ورفع الرواتب على أساسها طالما هي أدنى من ألف دينار أردني، مقابل تخفيض الحد الأعلى للأجور بنسبة مماثلة.
إجراء كالمذكور، لا يسدّ الفجوة بين الرواتب ويمنع اندثار الطبقة الوسطى فحسب، ولكنه اقتصادياً يقلّص الانهاك الذي تعانيه الخزينة ويحرّك عجلة الاقتصاد من جهات أخرى.
على صعيد التنمية الاجتماعية وهو القطاع الذي يئنّ في وطننا أيضاً، فإن رفع معدّل دخل الفرد يقلّص بالضرورة احتمالات انزلاق المزيد من الأردنيين لطبقة الفقراء المحتاجين للمعونة الوطنية سواء من الحكومة وعبر وزارة التنمية الاجتماعية (وقد ازدادت اعداد المستفيدين فعلا من برامج المعونة الوطنية) أو حتى عبر المتبرعين الأفراد والشركات الموجودين والعاملين في بلادنا ودوما يجدون المزيد من الحالات المؤسفة. وعليه يصبح زيادة رواتب أصحاب الدخول المتدنية فعلا يضمن لهم كرامتهم من جهة ويسهل مضيهم في مهامهم ورسالاتهم ويقلل من احتمالات ان تضطر الخزينة الانفاق عليهم يوما ما ولكن بصورة أخرى قد لا يريدها الجميع.
إضافة إلى ذلك، فإن إجراءً كالمذكور يقلل الاحتقان في المجتمع الذي بات يظهر ضمن إطار طبقي أحيانا، ويجدد التأكيد على ان موظفي الدرجات العليا متضامنون مع خزينة الدولة ويحترمون أن عليهم التقديم للوطن حتى نخرج من الأزمة الخانقة الحالية، وهنا يظهر عمليا مفهوم التكافل الاجتماعي.
وأدرك جيداً أن البعض قد يتهمني بالتأثر بالنماذج التاريخية والخيالية حول سد حاجة الفقراء عبر الأغنياء، ولكني عمليا لا أرى أن هناك حلّاً يضمن معالجة الأزمة بصورة بنيوية كهذا.
إضافة إلى كل ذلك، وإن قررت الحكومة الحالية التحرّك لاجتراح حلٍّ صعب سواء كان ما تقدمت به، أو أي حلٍّ مستدامٍ آخر، فإن ذلك على الأغلب يضمن قبول المعلمين به كما يمنحهم شرف تحقيق مكاسب لكل العاملين بالطبقة الدنيا وكل من هم اما فقراء او على حافة الفقر. وهو شرفٌ يستحقه المعلم القائم على تدريس وتعليم وتشكيل الثروة الحقيقية لبلادنا.
ختاماً، في ظل أسرة هاشمية مالكة تُعنى بالمعلمين والتعليم وتحاول جاهدةً الارتقاء بمستواهما لا يجب أن يواجه هؤلاء بالفقر والعنف والاستقطاب، سواء من الحكومة أو من بعض المتبرعين بذلك، فبذلك قد يخسر الوطن..
حمى الله الأردن ومليكه وأبناءه جميعا..