لم يعد الحديث عن التحول الرقمي في الأردن مجرّد طرحٍ نظري أو شعارٍ عابر، بل غدا مسارًا مؤسسيًا واضح المعالم، تُقاس نتائجه بمؤشرات دولية محايدة، كان آخرها تقرير البنك الدولي لعام 2025، الذي صنّف الأردن ضمن الفئة (A) الأعلى نضجًا في الحكومة الرقمية، محتلاً المرتبة الحادية والعشرين عالميًا والرابعة عربيًا. وهذا التقدّم لا يُقرأ بوصفه رقمًا منفصلًا، ولا يُختزل في ترتيبٍ عابر، بل يعكس مسارًا تراكميًا من العمل الهادئ والمنهجي، بدأ يترجم نفسه إلى نتائج ملموسة.
وتكمن أهمية هذا الإنجاز في التحوّل الذي طال فلسفة العمل الحكومي ذاتها، إذ انتقلت الرقمنة من كونها أداة لتحويل الإجراءات الورقية إلى إلكترونية، إلى مقاربة أعمق تعيد تصميم الخدمة العامة من منظور المواطن. فالفرق جوهري بين خدمة إلكترونية معقّدة، وخدمة رقمية ذكية تُنجز المعاملة بسلاسة، وتختصر الوقت والجهد، وتحدّ من الكلف والاحتكاك الإداري. وهذا التحول النوعي هو ما التقطه المؤشر الدولي عند تقييمه لمستوى تكامل الخدمات وجودتها، ومدى إشراك المواطنين فيها.
وتتميّز التجربة الأردنية بقدرٍ لافت من التوازن بين الطموح والواقعية. فالتحديات لا تزال قائمة، سواء على صعيد توحيد الجهود بين المؤسسات، أو بناء القدرات البشرية، أو تضييق الفجوة بين التخطيط والتنفيذ. غير أن الفارق الجوهري يتمثل في أن هذه التحديات لم تعد تُدار بصمت، بل باتت مطروحة في النقاش العام، ومُدرجة ضمن أولويات التطوير، وهو ما يُعد بحد ذاته مؤشرًا على نضج مؤسسي وإداري متقدّم.
وفي هذا السياق، يبرز الدور الريادي الذي يقوم به سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، من خلال رئاسته لمجلس تكنولوجيا المستقبل، بما يحمله ذلك من دلالات استراتيجية. فقد أسهم وضع هذا الملف في صدارة الاهتمام الوطني في تسريع وتيرة الإنجاز، وربط التحول الرقمي بأولويات الشباب والتعليم والاقتصاد وفرص العمل، باعتباره أداة لبناء المستقبل لا مجرد مشروع تقني. هذا الزخم القيادي منح مسار الرقمنة بُعدًا مستدامًا، ورسّخ القناعة بأنه خيار دولة طويل الأمد.
وما يبعث على الطمأنينة أن التحول الرقمي لم يعد شأنًا إداريًا داخليًا، بل أصبح جزءًا من التجربة اليومية للمواطن. فكل خدمة تُبسّط، وكل إجراء يُختصر، وكل معاملة تُنجز بيسر، تمثل مكسبًا حقيقيًا يشعر به الناس مباشرة، بعيدًا عن لغة التقارير والمؤشرات. صحيح أن الطريق لا يزال طويلًا، غير أن الاتجاه بات واضحًا، والخطوات أصبحت أكثر ثباتًا واتساقًا.
أما المرحلة المقبلة، فتتطلب الانتقال من التركيز على الكم إلى تعميق الأثر، بحيث تصبح الرقمنة أداة لتعزيز الشفافية، ورفع كفاءة الإنفاق العام، وتحقيق العدالة في الوصول إلى الخدمات. كما تستلزم بناء ثقة رقمية مستدامة، يشعر معها المواطن بأن بياناته مصونة، وأن الخدمة الرقمية ليست أسرع فحسب، بل أوضح وأكثر إنصافًا.
موجز القول إن ما تحقق يُعد إنجازًا وطنيًا جديرًا بالتقدير، غير أنه في الوقت ذاته يشكّل مسؤولية متجددة. فالمؤشرات الدولية لا تُحافَظ على مكانتها بذاتها، بل تُصان بالاستمرار في الإصلاح، وتعميق الربط بين التكنولوجيا والإنسان. والأردن اليوم يمضي في مسار واثق، تقوده رؤية ملكية حكيمة وواعية، ويُنفَّذ وفق خطوات مدروسة، بما يعزّز الثقة بأن مشروع الحكومة الرقمية يسير في الاتجاه الصحيح، نحو مزيد من الكفاءة والعمل المتواصل، ليبقى المواطن في قلب منظومة التغيير، لا بوصفه هدفًا مرحليًا، بل ركيزة أساسية ضمن إطار الاستدامة المؤسسية.