في كل خريف، تمتد رائحة الزيتون في أرجاء الأردن كذاكرةٍ جماعية، تختصر علاقة الناس بالأرض والعمل والرزق المبارك. لكن هذا العام، جاءت الرائحة ممزوجة بطعم القلق؛ موسمٌ شحيح المطر، ضعيف الغلة، مرتفع الكلفة، يكشف هشاشة منظومةٍ ما تزال تدار بعقلية موسمية في زمنٍ تغيّر فيه المناخ وتبدلت موازين الإنتاج. فالمشهد الزراعي لا يشي بالخير الكثير، أمطارٌ متقطعة، موجات حرّ غير مسبوقة، صقيعٌ في غير أوانه، وغبارٌ أرهق الأغصان وأضعف الثمار، وأمام هذه الوقائع، يبدو أن شجرة الزيتون – رمز الثبات – تواجه اليوم تحدياً وجودياً، ليس فقط بفعل الجفاف، بل بسبب غياب التخطيط الزراعي المستدام الذي يحميها من تقلبات الطبيعة ومن فوضى السوق على حد سواء. اقتصادياً، لم يكن موسم 2025 عادلاً لا للمزارع ولا للمستهلك. فالكميات تراجعت بشكل واضح، والأسعار ارتفعت حتى باتت تنكة الزيت تقترب من حدود لا تطاق. وبين المزارع الذي يئن تحت عبء الكلفة، والمستهلك الذي يشتكي من الغلاء، ظهر وسيطٌ جديد في المشهد، تاجرٌ يقتنص الفرصة، يستغل الندرة ليحوّلها إلى مكسب. وهكذا، تحوّل الزيت المبارك إلى سلعةٍ تتقاذفها شهية السوق وجشع البعض. هذا الواقع يطرح سؤالاً جوهرياً لماذا ما زال قطاع الزيتون الأردني رهينة المزاج المناخي والتجاري؟ فالقطاع الذي يُفترض أنه «استراتيجي» يفتقر إلى أدوات إدارة استراتيجية؛ فلا خطط ريّ حديثة قادرة على مواجهة الجفاف، ولا صنوف محسّنة تتأقلم مع الحرارة، ولا سياسات سوقية تضمن توازن الأسعار بين المنتج والمستهلك. وكأن الشجرة التي عمرها آلاف السنين تُترك لمصيرها، تنتظر رحمة السماء عاماً بعد عام. وفي حين تُرفع الشعارات حول «دعم المزارع» و»تشجيع المنتج المحلي»، لا تزال الفجوة قائمة بين الخطاب والواقع. فالمزارع يقف وحيداً أمام تكاليف السماد والري والعمالة، فيما تضبط الأسواق بقرارات متأخرة لا تكبح جشع المتلاعبين ولا تحمي المستهلك من الغلاء. أما على صعيد الجودة، فالمفارقة لافتة،كلما قلّ الإنتاج، زادت جودة الزيت. فقلة الحمل على الأشجار جعلت الزيت هذا العام أنقى وأكثر صفاءً، لكن هذه المفارقة لا تُترجم في ميزان السوق بعدالة، إذ يظل معيار الربح هو المتحكم في مصير «الذهب الأخضر». إن الأزمة التي يمر بها موسم الزيتون ليست ظرفاً عابراً، بل جرس إنذار لضرورة التحول من إدارة موسمية إلى إدارة مستدامة. فالتغير المناخي لم يعد احتمالاً، بل حقيقة تتجسد كل عام في عطش الأرض واصفرار الأوراق. وإذا لم يُصغِ صانع القرار لصوت الأرض اليوم، فلن يجد ما يُدار غداً سوى حقولٍ جرداء وشجرةٍ تنتظر المطر الذي لا يأتي. ورغم هذا المشهد القاتم، يبقى الزيتون الأردني رمزاً للصمود لا للانكسار، فكل موسمٍ صعب يعيد تذكيرنا أن هذه الشجرة التي باركها الله، ما زالت قادرة على الحياة، شريطة أن نبادَلها الرعاية بالتخطيط، والبركة بالمسؤولية، والأصالة بالعدالة.