مفترق طرق

الكارثة الإنسانية في غزة وصلت إلى مراحل لا يمكن وصفها، وإن مشاهد الأطفال الجائعين أغضبت الناس حول العالم،... وإن السماح باستمرار هذا الوضع وصمة عار على إنسانيتنا جميعاً- الملك عبد الله الثاني ابن الحسين.

في شهر شباط الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، وتسعى إلى تحويله إلى «ريفييرا الشرق الأوسط». وفي خطوة كاشفة عن النوايا، عُيّن مايك هاكابي سفيرًا للولايات المتحدة لدى الكيان الصهيوني، وهو المعروف بتصريحاته العلنية التي تدعو إلى إخضاع الضفة الغربية للسيطرة الصهيونية. ومنذ ذلك الحين، بات واضحًا أن المخطط يستهدف ترحيل الفلسطينيين من أرضهم وضم الضفة الغربية. ولم يلبث هاكابي أن ظهر مؤخرًا في رفح، منكرًا وجود مجاعة في غزة، في تناقض صارخ مع الصور المتداولة والضحايا الذين فارقوا الحياة جوعًا.

ولتنفيذ هذه الاستراتيجية، تنصّل نتن ياهو من اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقّعه في عهد إدارة الرئيس بايدن، بضوء أخضر من الإدارة الأمريكية الجديدة، ثم صعّد من عملياته العسكرية، وحاصر غزة، وجوّع سكانها، ودمّر بنيتها التحتية، بالتزامن مع توسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

يرى نتن ياهو، ومعه الحاكمان الفعليان للكيان، سموتريتش وبن غفير، أن الفرصة المتاحة اليوم لترحيل الفلسطينيين وضم غزة والضفة إلى الكيان قد لا تتكرر؛ فالرئيس الأمريكي يقدّم دعمه العلني لهم، ومحور المقاومة في أضعف حالاته، والكيان في ذروة قوته العسكرية، والفلسطينيون منقسمون، واستطلاعات الرأي تميل لصالح نتن ياهو.

غير أن المجاعة الخانقة في غزة، وصور الأطفال الجائعين، ومشاهد مصائد الموت، أدّت إلى تصاعد الضغوط الدولية على نتن ياهو للسماح بإدخال المساعدات. وتزامن ذلك مع تحوّل في الرأي العام الداخلي، الذي بات يطالب بإنهاء الحرب، خاصة بعد انتشار صورة الأسير الصهيوني الجائع المحتجز في غزة. وفي الوقت نفسه، تصاعدت الدعوات لوقف المجاعة، على وقع تقارير صادرة عن منظمات حقوقية إسرائيلية بارزة تتهم حكومة نتن ياهو بارتكاب إبادة جماعية، وهو اتهام يحمل دلالات قانونية بالغة الخطورة. وتزامن ذلك أيضًا مع فشل عملية «جدعون»، التي كانت تهدف إلى القضاء على حركة حماس.

وأمام هذا المشهد المعقّد، تتزاحم في ذهن نتن ياهو جملة من الاعتبارات: رغبته في البقاء في السلطة، والحاجة إلى إدخال المساعدات الإنسانية، والسعي للحفاظ على تماسك حكومته، وتحقيق استراتيجيته الرامية إلى تهجير سكان غزة، بانتظار الموقف النهائي للإدارة الأمريكية، وذلك رغم إخفاقه في تحقيق أهداف الحرب وتكبّده خسائر عسكرية فادحة وسط ضغوط من الجيش بوقف الابادة. وفي ظل تصاعد الضغوط الداخلية والدولية، قرر السماح بإدخال الحد الأدنى من المساعدات إلى غزة، في محاولة لاحتواء الغضب وتخفيف حدة الانتقادات، وإتاحة الوقت لترتيب خطوته التالية.

ولتمكينه من اتخاذ قرار ادخال المساعدات، وإن كان محدودًا لذر الرماد في العيون، فقد تطلب ذلك تأجيله إلى حين بدء عطلة الكنيست، التي تمتد لثلاثة أشهر، ما يجنّبه خطر إسقاط حكومته. واستغل عطلة يوم السبت، فعقد اجتماعًا مصغّرًا لمجلس الأمن المصغّر، من دون حضور سموتريتش وبن غفير، واتخذ خلاله قرارًا بإدخال مساعدات برّية وجوّية محدودة. كما أدلى بتصريحات غير جادة حول موافقته على هدنة مؤقتة تتيح إخراج المحتجزين، دون أن يصطدم مباشرة بشركائه المتشددين.

لكن الأحداث باتت تتسارع بشكل كبير، وأصبح نتن ياهو في سباق مع الزمن، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما إنهاء الحرب عبر صفقة شاملة، أو المضيّ في أقصى درجات التصعيد لفرض مخططاته. أما الخيار الأول، فقد يفضي إلى انهيار حكومته في ظل الانقسامات الحادة التي تعصف بحزبه وائتلافه، واحتمال التصويت على حجب الثقة عندما ينهي الكنيست عطلته الصيفية. وأما الخيار الثاني، فيقوم على تصعيد الضغط العسكري على غزة، رغم ما يرافقه من تصاعد في الضغوط الدولية، واتساع العزلة الخارجية، ورفض متزايد من الجنود المشاركة في الحرب، إلى جانب ضغوط محلية لوقفها، وخسائر فادحة يتكبّدها الجيش.

أعتقد أنه لم يعد من مفرّ في هذه المرحلة سوى الاستمرار في إدخال المساعدات. ويبدو أن الإدارة الأمريكية، بالتنسيق مع نتن ياهو، تفصل بين المسار العسكري والمساعدات الإنسانية؛ فالمساعدات ستتزايد، فيما ستُكثّف العمليات العسكرية. ومع ذلك، فإن فشل نتن ياهو في حملته العسكرية، وعجزه عن الإمساك بخيوط اللعبة، سيُفقده زمام المبادرة، وسيجد نفسه قريبًا مضطرًا لتوقيع اتفاق يوقف الإبادة. وحينها، سندخل في مرحلة جديدة، عنوانها: التهجير الناعم لأهلنا في غزة.