في زمن تتزاحم فيه التحولات التكنولوجية على رسم ملامح العمل والاقتصاد والمجتمع، يصبح التعليم في قلب العاصفة، لا خيار له إلا أن يعيد تعريف ذاته، أو يتآكل في عالم لم يعد يتسع لبطء الحركة أو ثبات النماذج القديمة، فلم يعد السؤال: هل نحتاج إلى تغيير التعليم؟ بل أصبح: كيف نعيد هندسته جذريا ليصبح قادرا على إنتاج إنسان المستقبل؟ وإذا كانت الثورة الرقمية عالمية، فإن ترجمتها إلى سياسات وممارسات هي مسؤولية محلية بامتياز، خاصة في دول مثل الأردن التي تراهن على رأس المال البشري كونه المصدر الأكثر ندرة والأعلى قيمة.
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي محركا مركزيا لإعادة تشكيل بيئات التعلم، فأنظمة التعليم التكيفية لم تعد مفهوما تجريبيا، بل واقعا قادرا على قراءة أنماط تعلم الطالب لحظة بلحظة، وتخصيص المحتوى بما يلائم احتياجاته الحقيقية، وهذا التحول يحرر المعلم من عبء التلقين نحو دور قيادي جديد: مهندس تعلم ومرشد فكري وراع لقدرات الطالب الإنسانية، ويعزز هذا الاتجاه الانتقال من نموذج "التعلم المدفوع بالذكاء الاصطناعي” إلى "التعلم الممكن بالذكاء الاصطناعي”، إذ تصبح التكنولوجيا ذراعا داعمة، وليست بديلا عن العلاقة التربوية الأصيلة.
أما تقنيات الواقع الممتد XR ففتحت بابا واسعا أمام التعلم الغامر، إذ بات بالإمكان إنشاء معامل افتراضية ومحاكاة مواقف خطرة، وتجسيد مفاهيم معقدة يصعب تقديمها في بيئة صفية تقليدية، وتمثل هذه القفزة فرصة ذهبية للأردن، خصوصا في التخصصات التي تتطلب تجهيزات مكلفة أو غير متاحة. فإدماج XR في غرف العلوم والهندسة والمهن المستقبلية يمكن أن يختصر فجوات البنية التحتية، ويمنح طلاب المدارس الحكومية فرصا عادلة للوصول إلى تعليم عالي الجودة، دون أن تكون الجغرافيا أو الموارد عائقا.
وعلى مستوى أعمق تفرض التحولات الاقتصادية العالمية إعادة تعريف المتعلم نفسه، فمفهوم "المعارف المتنقلة” Knowmad لم يعد نظريا؛ إذ تشير الإحصاءات إلى وجود أكثر من 40 مليون بدوي رقمي حول العالم في 2024، مع تسارع نمو القوى العاملة المتحركة عن بعد، وقد أطلقت أكثر من 50 دولة برامج تأشيرات لاستقطاب هذه المواهب، مدركة أن اقتصاد المعرفة يقوم على الإنسان القادر على الإبداع والعمل من أي مكان، وبالنسبة للأردن الذي يملك رأسمالا بشريا نوعيا لكنه يعاني محدودية في أسواق العمل، فإن بناء مهارات المتنقلين معرفيا ليس خيارا تجميليا، بل استراتيجية تنمية وطنية تفتح الباب أمام الشباب للعمل عالميا وهم داخل وطنهم.
ويرتبط هذا التحول بإعادة تصميم المناهج لتصبح مرنة ومتداخلة التخصصات وقادرة على بناء مهارات التفكير النظامي، والإبداع والمرونة الذهنية، فالوظائف المستقبلية من هندسة الذكاء الاصطناعي إلى تحليل البيانات والاقتصاد الأخضر؛ تحتاج إلى خيال لا يقل أهمية عن المهارة التقنية، وهذا يفرض على النظام التعليمي الأردني تجاوز ثقافة الحفظ، نحو تجارب تعلم قائمة على المشاريع والتحديات الواقعية وحل المشكلات الحياتية.
ولا يمكن لهذا التحول أن يتحقق دون بيئة سياساتية جريئة تمنح المدارس استقلالية مدروسة، وتعيد تعريف دور المعلم عبر تطوير مهني مستمر يدمج بين التقنية والإنسانية، وتنسج شراكات جديدة بين التعليم العالي والقطاع الخاص كي لا تبقى الجامعة منفصلة عن الاقتصاد الوطني، ومن المهم الإشارة إلى أن الاستثمار في التحول الرقمي للبنية التحتية، خاصة في المدارس الحكومية ليس مشروعا تقنيا، بل استثمار في العدالة المجتمعية وفرص التمكين الاقتصادي.
إن إعادة بناء التعليم ليست مشروعا تقنيا بقدر ما هي مشروع حضاري، فالتكنولوجيا مهما بلغت قوتها تبقى أداة، بينما يبقى جوهر التعليم هو بناء الإنسان القادر على القيادة والابتكار، وصناعة أثر يتجاوز حدود الوظيفة إلى حدود المواطنة المسؤولة. وفي لحظة تاريخية مثل هذه، يصبح دور القائد التربوي الأردني محوريا: أن يرى القادم قبل أن يحدث، وأن يحول التكنولوجيا إلى طاقة تحرير لا إلى أداة استهلاك، وأن يرسم ملامح مستقبل يتناسب مع إمكانيات الأردن وطموحه الحضاري.
إن التعليم اليوم أمام فرصة لا تتكرر: فرصة لإعادة بناء ذاته من الأساس، ليصبح منصة إنتاج للمعرفة والابتكار وريادة المستقبل، وما بين الإمكان والطموح تكمن القيادة القادرة على تحويل هذا التحول من فكرة إلى واقع، ومن سياسة إلى أثر، ومن نظام إلى نهضة.