د. ميساء المصري
ربما يتفق معي الكثير من القراء بأن عقولنا باتت تتضارب فيها معايير التنبؤ بما سيحصل في الإقليم , فقد يتنبأ البعض بأن الأسوأ قادم ، ويرسمون لذلك سيناريوهات محتملة تتراوح ما بين الإنهيار والحرب والتفكك. و البعض الآخر يشكك في هذا التنبؤ, ليتفاءل بالصحوة والنصر والثبات ،وبين هذا وذاك، قد يتم تجاهل التنبؤ بفعل "التصلب الإدراكي" لصناع السياسات ليظل المحيط "معلقاً" بفعل العجز عن إيجاد حلول لأزماته.
دعونا نفكر بصوت عالِِ معا ، يبدو أن الضوء الآن مسلط على الأردن بقوة ,لماذا ؟ وكيف ؟ وهل صدمنا من حديث نتنياهو عن الرغبة بمصادرة أكثر من ألفين دونم وإقامة حاجز في الأغوار؟ أو الحديث عن التهجير بصورة مغايرة .فما هي المؤامرة المقبلة ؟.
نحن اليوم نبالغ بالصمت والتمنيات, ونقف في البازار السياسي بلا أي ذاكرة . وننسى أو نتغافل عن الحقيقة البسيطة لعقود، بأن الصهاينة يعرفون ضم الأغوار بإسم "خطة ألون”، وقد تم وضعها في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967 من قبل وزير العمل آنذاك إيغال ألون . ثم توالت التهديدات بالضم في مناسبات عديدة منها , في عام 2012, وعام 2015 وفي عام 2020 والآن يتم الحديث ايضا عن جدار "لضمان عدم حدوث تسلل"للأشخاص والسلاح .
ولتنتهي المقاربة هنا، بأن أسرائيل وقتها ليست ذاتها في 2024, وكذلك نتنياهو, الذي إختار التدرج الزمني في إعلاناته عن الضم,أحيانا كحيلة إنتخابية وأحيانا كمنفذ لجرائمه وأحيانا كغباء استراتيجي ,وأحيانا كخدعة سياسية مكشوفة للبقاء في السلطة والضغط على غانتس لقبول حكومة وحدة وطنية.. فهو الآن يعاني من كيان متدهور خاسر سياسيا وإقتصاديا مع تفكك سياسي وأحزاب دخانية ومجتمع متشتت , لكن إلى أي مدى يمكن أن نقتنع بذلك؟.
خطة الضم , ليست مشروعًا جديدًا وإنما نهاية لمسرحية كبيرة مورست ضد القضية الفلسطينية، ولتصبح المشكلة الظاهرة الآن تتعلق بضم "الأغوار"، لا الحرب ولا جرائمهم ولا الصراع الدائر في الشمال والجنوب ولا أن المشكلة هي إحتلال وإعتراف بهذا الإحتلال المجرم على الأرض.فهل ستكون بداية التهجير الشرقي ..؟
علينا أن نعي هنا أن الضم أمر صادر من واشنطن وليس من تل أبيب ومن يمسك بزمام الملف هو مايك بنس النائب الأنجيلي المتشدد , وبدعم من الإنجليين جماعة ترمب , وهذه الطائفة لديها قناعات عقائدية . وفق تعاليم "التدبير الإلهي” حيث يجب أن تكون إسرائيل كلها لليهود وعاصمتها القدس والمعركة الفاصلة التي يُخيَّر فيها اليهود بين إتباع المسيح وبين القتل.
إن أهمية الأغوار لا تتلخص في عدد المستوطنين ال 15 ألف هناك، ولا تتلخص في القوة السياسية كمنطقة عازلة أمنية. لحماية الحدود من التهديد العسكري التقليدي القادم من الشرق.فلقد تغيرت الحقائق الإستراتيجية عن أيام ألون، وقليلون هم الذين يميزون بين الحاجة المحتملة إلى وجود مرتبط بالأمن والوفرة الكاملة للمستوطنات المدنية الشرعية في المنطقة.
شعبة الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) بحثت سابقا في تبعات الإعلان عن الضم على الطرفين (إسرائيل والأردن) , وبينت مدى خطورتها ، وكيف سيؤثر الضم على خطوات إيران في سورية ولبنان وغزة، وكيف سيكون رد فعل السعودية ودول الخليج، وماذا ستفعل السلطة الفلسطينية، وما ستفعل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهم، وبالأساس كيف سيكون رد فعل الشعبين الفلسطيني والأردني ، وهل ستستأنف العمليات المسلحة وكيف سيكون حجمها ومن أي جانب ؟؟؟وما هي أوراق الأردن إتجاه ذلك ؟ .
في ضوء ذلك ما هي الخيارات أمام الدولة الأردنية ؟ التحالفات السياسية والعربية والإقليمية والدولية تتغير يوما بعد أخر وفقا للبعد الجيوسياسي والمصالح بين الأطراف جميعها , فصديق الأمس هو عدو اليوم ,والتغيير السياسي مطلوب بشدة في هذه المرحلة . التغيير داخليا وخارجيا وتحالفيا ، والخيارات متعددة , لكن آلية التطبيق يفرضها الواقع , يتوق البعض بشكل خاص إلى إلغاء صفقة الغاز الطبيعي مع الكيان أو تجميد إتفاقية السلام والمراهنة على أوراق الحدود الآمنة, حسب المادة 3(2) من معاهدة السلام , وورقة القدس الشرقية والوصاية الهاشمية على المدن المقدسة والأوقاف الإسلامية حسب المادة (9) ,و قضية اللاجئين وعودتهم. إذ يستضيف الأردن حوالي (2.3) مليون لاجئ فلسطيني مسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
كذلك ورقة العلاقات الإقتصادية التي نصت عليها المادة (7) من معاهدة السلام وورقة الأمن. حسب المادة (4) من معاهدة السلام. لا الحديث عن الوطن البديل للفلسطينيين. فليس للأردن أي نية طيبة بهذا الشأن إتجاه الحكومة الإسرائيلية الحالية.ولا نغفل عن ورقة المياه الجوفية التي تشكل اعتداءً على حقوق الأردن المائية.
كذلك لدينا خطوة أكثر فاعلية كوقف التعاون الديبلوماسي والإستخباري والأمني والإقتصادي , وكل أشكال التطبيع مع هذا الكيان على المستويين الرسمي والمحلي , وتفعيل الرفض الشعبي والذي يعلو صوته عالميا برفض الحرب والإبادة من مينابوليس الى لندن الى فرنسا الى نظام الأبرتهايد العنصري.. فهل نفعل ؟ .
خلاصة القول , سواء تطورت أزمة كبرى أم لا، فإن العلاقة مع الأردن تآكلت في الوقت الذي تولى فيه نتنياهو منصبه. حتى لو كان ما يطفو على السطح غير ذلك , وعلى المملكة أن تحافظ على توازن دقيق مع الدفع الحاصل حاليا إلى زاوية تحددها الجغرافيا بقدر ما تحددها إسرائيل والولايات المتحدة ,اللتان تتجاهلان مخاوفها علنا. فالمسؤولية هائلة . لكن الطريق واضح . ولا ننسى أن السياسة تعني التدرج في تحقيق الأهداف وفن تحقيق أفضل الممكنات.