د. علي أحمد الرحامنة
أرادوكم أن تتابعوا حياتكم، كما هي، فماذا ينقصكم؟!
غضِبوا أيّما غضب، لأنكم غضبتم جدا، وتجرّأتم على مهاجمة من يحاصركم ويقتلكم ويجرحكم ويعتقلكم ويهينكم ويسحل نساءكم على أرض المسجد الأقصى... فليس لكم الحقّ حتّى في أن تغضبوا، وأنتم إرهابيّون مجرمون وقتَلة إن هاجمتم الجيش الذي تسمح لكم كل الأعراف السماوية والأرضية بمهاجمته!
أمّا أن تصل بكم طبيعتكم "الوحشية" غير البشرية إلى حدّ الخروج من سجنكم في القطاع المحاصر ومهاجمة "فرقة غزة" وإذلالها وأسر ما أمكن نقله من ضباطها وجنودها، وكشف حقيقة وهن جيش الاحتلال، وتفوّق العقل والعزيمة والشجاعة الفلسطينية، فهذا تجاوزٌ لكلّ الحدود!... هذا إرهاب وجنون ووحشية فلسطينية، وهذا يستدعي تدخّلا مباشرا لكلّ "العالم الحرّ الديمقراطي الإنساني الذي يحترم الأعراف والمواثيق الدولية"، أي تدخّلا غربيا مباشرا تقوده الولايات المتحدة، التي يشارك رئيسها ووزير خارجيته ووزير دفاعها في اجتماعات "مجلس الحرب الإسرائيلي" الذي لا يستطيع حضور اجتماعاته إلاّ عدد محدود من الوزراء والقادة العسكريون الإسرائيليون.
ويا أيها الفلسطينيون، أيها العرب، أيها المسلمون، أيها الأحرار في هذا العالم، كائنا من كنتم، يقولون لكم بكلّ وضوح من واقع ما يقومون به، ويقولونه: إسرائيل أُنشت لتكون قاعدة متقدمة لضرب أيّ نهوض عربي، منذ سايكس-بيكو ووعد بلفور والاحتلال البريطاني لفلسطين، مرورا برعاية الولايات المتحدة لهذا المشروع الاستعماري الإحلالي المربح، وصولا إلى استنفار سياسي وعسكري مباشر غير مسبوق، ومشاركة أميركية أساسا لدولة الاحتلال في العدوان على غزة وما تمثله غزة.
إنها حرب كبرى!
إنها ليست مسألة دعم وإسناد أميركي وأوروبي. إنها مشاركة مباشرة ونشطة في دفاع الناتو عن قاعدة عسكرية متقدمة في الشرق الأوسط، فيها جيش إن انكشف أن بالإمكان ليس فقط هزيمته، بل وإذلاله، فإن سلسلة دومينو من النتائج والأسئلة والإجابات ستحيط بالشرق الأوسط ودوله، العربية خصوصا، وستضع كثيرا من القيادات، وأولها السلطة الفلسطينية وقواها الأمنية وفصيلها المركزيّ (فتح)، في مواقع حرج بالغة السوء. والأمر نفسه ينطبق على قوافل "التطبيع الإبراهيمي"، ومعهم في جهة أخرى، وحدة الساحات، وقادة ما يسمّى "محور المقاومة"، وصولا حتى إلى مواقف دولية عبر العالم.
والمرحلة الآن تقول: أن تصعد أيها العربيّ الفلسطينيّ في غزة والضفة ومناطق 48 وفي الشتات لتقول (لا!!)، فأنت تحاصر حصارك... وحصارك لحصارك مصدره، كما قال ضمير فلسطين، الراحل محمود درويش: (لأنه) لا مفرّ!!
لا مفرّ من الهجوم ومحاصرة الحصار بعد مئة عام من النضال، و 75 عاما من عسف دولة الاحتلال وعنصريتها الفاشية، ورفضها حتى الاكتفاء بأربعة أخماس فلسطين تبعا لأوسلو... سبعة معارك-حروب على قطاع غزة في أثناء نحو 17 عاما من الحصار، وتهويد مباشر وتدنيس يوميّ للأقصى، وابتلاع يوميّ للضفة الغربية المحتلة بالمستوطنات، وقتل وجرح واعتقالات لآلاف الفلسطينيين، وتقطيع أوصال ما تبقّى من الضفة الغربية، وعدد لا يُحصى أبدا من الاعتداءات التي تجاوزت كلّ أساسيات أبسط حقوق الإنسان.
عندما يهاجمك عدوّك، يدعوك "العالم الحرّ" إلى التهدئة وضبط النفس، وكان يجب أن يقولوا، كما يفعلون عمليا (التهدئة وضبط النفس إلى أن تنجز قوات الاحتلال مهمتها في قتلك والانتصار عليك)..
وعندا هاجمتَ أنت، حاصروك بكل ما أوتوا من قوة، بل وحاصروك بسلاسل من الأكاذيب التي حرّكوا معها آلة الحرب الإعلامية، ورفضوا حتى الإشارة إلى وقف إطلاق النار... أنت محاصَر في الجغرافيا، ومحاصَر في الإعلام، ومحاصَر بالجيوش وحاملات الطائرات، ...
ولكنّك تحاصرهم أيضا!
لقد حاصرتَهم حين تفوّق عقلك وشجاعتك وصبرك على كلّ ما أعدّوه ...
وحاصرتَهم بشعب صابر مناضل، شُطِبت حتى الآن نحو مئة أسرة من أبنائه من السجل المدني، فقد استشهدوا جميعا، وبعض الأسر بلغ عدد أفرادها 44 شخصا.
وحاصرتَهم بنضال القدس والضفة ومناطق 48 والشتات، والصوت العربي والإسلامي وصوت الأحرار عبر العالم..
وحاصرتَهم ومعك نحو 350 مليون عربي من المسلمين والمسيحيين، ونحو مليارين من المسلمين، ومئات ملايين الشرفاء الأحرار محبّي العدل والحرية عبر العالم. وهؤلاء لا تدير رؤوسهم آلة الكذب الإعلاميّ الوقح، أيّا كان مصدرها. بل إن "الدورة المكثّفة" التي يشارك فيها الآن مئات الملايين من العرب خصوصا، صار عنوانها: "يا قادة الغرب ويا وسائل إعلام الناتو... نعلم أنكم كاذبون، ونعلم ذلك علم اليقين".
وحاصرتَهم، وهذا هو الحصار الأكبر، حينَ أفهمتَهم أن (لا مفرّ)! ولا شيء لا شيء إلّا الوطن ... الموت ولا هجرة أخرى، والموت ولا ما يُسمّى "الوطن البديل". وهنا، كلّ التحية للمواقف الرسمية التي هدّدت بالحرب إذا ما حاولت دولة الاحتلال تنفيذ مخططات "الوطن البديل"، ولا بدّ القيام بخطوات عملية، وصولا إلى الإعدادات العسكرية، التي توضّح للعدوّ والصديق أن هذا ليس مجرّد شعار أو كلمات عابرة.
"طُوفان الأقصى" يدخل أسبوعه الثالث، وكاذب من يزعم معرفة إلى أين يمضي؛ لأن أصحاب القرار أنفسهم لا يعرفون.
ما نعرفه يقينا هو أن الّذين "حاصروا حصارهم" وأذلّوا جيش الاحتلال، أدخلوا القضية الفلسطينية والإقليم، وربما العالم، في معادلة جديدة ... والأكيد أيضا، أن هناك شرق أوسط جديدا يتشكّل الآن.
كلّ العيون على فلسطين، وعلى "الجبهة الشمالية والمحور ووحدة الساحات"، ...
رحى الحرب تدور، ويبدو أنها ستدور لأسابيع وربما شهورا، ...
أيّ دعم للأهل في غزة، مهما بدا صغيرا، مهمّ، فهم والله لا يجدون الماء للشرب والوضوء، ومستشفياتهم تتحول إلى مقابر، ومجازر الاحتلال أوقعت حتى الآن نحو عشرين ألفا من أهالي غزة، أكثر من ثلثيهم من الأطفال والنساء، بين شهيد ومفقود تحن الأنقاض وجريح ...
إنها لحظات يختلط فيه الاعتزاز والفخر بالألم والدعاء ... وأيّ مبادرة أو عمل يسهم في دعم صمود أهل غزة قد يكون أهمّ ممّا نظن!