المثنى والماء المتدفق

     ها هو رمضان عنّا ينسلخ بأجره وثوابه ، وصيامه وقيامه ، ليطلّ علينا العيد الذي اعتدنا أن يكون يوم فرح ومسرّة وبهجة وإشراق خاصة وأننا في شهر نيسان أجمل شهر في فصل الربيع ، ولكن ربيعنا هذا مختلف ومعاكسٌ لما ألفناه وكذلك عيدنا، فأزهار ربيعنا قد أحرقتها نيران الحزن الذي انغرس في القلوب وبهجة عيدنا مزقتها أنياب الموت الذي جاء ملاكه على هيئة ماء متدفق لمطر منهمر...

 

يا الله ... ويارب ما أعظم شأنك .. كيف يصبح سر الحياة سبباً للموت وكيف يضحي أول الخلق سبباً للفناء .. كيف نبدأ من ماء دافق وننتهي بماء متدفّق، أيام مضت كنا ننتظر خبراً عنك كما ننتظر إعلان موعد عيد الفطر ولكن العيد عاد وأنت ذهبت .. لماذا؟ وما الذي دهاك من دنيانا حتى تعجّل بالرحيل وتبكّر السفر...؟

 

نعم.. لقد عجّلت الرحيل.. وإني لأعلم أنك سئمت بؤس دنيانا ، وكرهت أن تبقى فوق التراب ترابا فامتطيت جواد عزمك ومضيت ولسان حالك يقول : " تراب تحت التراب خير من تراب فوقه " .. نعم .. هذا لسان حالك..

إيه مثنى .. أو أيها المثنى لا بل أنك جمع في واحد.. أجب عن حائر سؤالي.. ما الذي دعاك للرحيل؟ ولماذا عجلّت في ذلك؟ ولماذا في هذه الأحوال ونحن ننتظر أشياء أخرى؟ هل شدّك الشوق لمن تحمل اسمه وأعني ابن حارثة الشيباني الذي قضى في شعبان وكان قائداً للجند؟ أم أنك اشتقت لإبراهيم وعبدالقادر وهارون وسلمان الذين سبقوك للجنة نرجو لك ولهم ذلك فأحببت أن تلحق بهم.. ألا ترى يا أخي أنكم جميعاّ غادرتم دنيانا دون زواج.. أتراكم أحببتم أن تلحقوا بركب حنظلة لتغسلكم ملائكة الرحمن مما علق بأرواحكم من أدران الدنيا وأرجاسها وتزفكم بعد ذلك لعرائسكم من الحور العين.....

أيه مثنى.. ما الذي جعلك تمخر عُباب السيل كما فعل سلفك طارق بالبحر.. وأي جرأة كانت لديك ومروءة ملأت نفسك لتذهب لجنودك تتفقد أحوالهم وتتأكد بنفسك أنه أفطروا بعد صيام.

منذ اللحظة الأولى للخبر المهول العظيم والأمل يحدونا أن الماء الذي سقطت فيه سوف يحرسك كما حرس موسى ويوسف ويونس عليهم السلام ولم نعلم أنه سيكون مطيتك نحو الأعلى ويرفعك شهيداً تفرح السماء بلقياه وعلى فراقه تحزن الأرض.

إيه مثنى.. بعديد اخوة يوسف وكواكب مجموعتنا الشمسية كانت الأيام التي انتظرناك بها، لم يفارقنا الأمل لحظة بأن موعد اللقاء قريب.. وقد أصبح الأردن خلالها حيّاً صغيراً من قرية لا همّ لأهله إلا الدعاء والتضرع بأن تعود لأهلك، حتى أتى آخر يوم في رمضان حاملاً معه البشائر للسماء أن افتحي أبوابك لاستقبال شهيد... ويبقى السؤال على الشفاه المطبقات كيف للماء الذي هو سر الحياة أن يكون قاتلاً.

إيه مثنى.. في الصدر نيران مسعّرة تحرق الأحشاء والكبد على فراقك وفي المآقي دماء مالحة بدل الدمع على رحيلك.. وفي العقول الحائرة سؤال حائر مثلها لا بل كثير من الأسئلة تبدأ بـ(لماذا) و(لو) ولكن أبرز سؤال فيها يبدا بـ (كيف)..

إيه يا ابن أخي

لن أرثيك ولن أحدّث الناس عن وجع خلّفته في قلبي، لأن الرثاء للأموات وأنت حيٌّ في الأرض وفي السماء فلن أرثيك.

وإني لأعلم أن كل حي إلى فناء وكل مقيم الى رحيل وكل مسافر إلى إياب، وها أنت تعود للمرة الأخيرة الى حيث بدأت فإلى لقاءٍ بك في جنات الله.

رحمك الله تعالى وغفر لك وربط الله على قلوب والديك وأهلك ومحبيك وألقى عليهم سندس الصبر وإستبرق الترجيع وإنا لله وإنا إليه راجعون.