عوض ضيف الله الملاحمهأثناء دراستي في جامعة بغداد في العراق العظيم ، خلال الفترة من ١٩٧١ — ١٩٧٥ ، كان يُطلب منا كطلاب ان نراجع مديرية الجنسية ، لتسجيل أسمائنا . كما كنا ندخل بعض الوزارات لمتابعات معينة أحياناً . وكنت أُلاحظ ان هناك قطعة من الخشب مُنمّقة مكتوب عليها [[ لو دامت لغيرك ما آلت إليك ]] . تعجبت ، وتفكرت فيها كثيراً ، وتناقشنا فيها كزملاء كثيراً . وخلُصنا الى ان وضع هذه الحِكمة العربية القديمة ليس عبثاً ، وإنما الجهات الرسمية العراقية تهدف منها تذكير الجالس على كرسي المسؤولية ، الذي يتمتع بصلاحيات ، تمنحه الفرصة ليقدم الخدمة ، وربما يحاول ان يحجبها عن البعض ولو لزمن ، او يعمل على تعطيل معاملات الناس ، مُستغلاً صلاحياته الوظيفية ، عليه ان يتذكر ان هذا المنصب وهذه الوظيفة وهذه السُلطة لن تدوم له ، وأنه لو دامت لغيره لما آلت ، أي لما وصلت اليه .
أتمنى على كل مسؤول في وطني الحبيب ، أن لا ينسى هذه الحكمة القيمة ، التي تحث على الإعتبار ، وإدراك ان المناصب لا تدوم لأحد ، وأن الكرسي الذي يجلس عليه هو الآن إنما جلس عليه من سبقوه ، وأنه في يومٍ ما سيغادر موقعه هذا فاسحاً المجال لغيره ليُشغله ، كما فُسح المجال له . لذلك عليه ان لا يتغطرس ، ولا يُفرط في إستخدام صلاحياته ، وان يؤدي واجبه بأمانة ، وإخلاص ، وان لا يُضيِّق على الناس ، بل عليه ان يكون مرناً قدر الإمكان ، وأن يتساهل في تفسير القوانين لدرجة لا تفقدها فحواها وجوهرها ، وأن يتعامل بروح القانون وليس نصوصه الجامدة . وعلى كل مسؤول ان يتأسى ب ، ويتبع نهج المسؤولين في دول الغرب الذين يذهبون الى أقصى درجات اللين والمرونة في فهم وتفسير القوانين لمساعدة الناس وخدمتهم قدر المستطاع ، وللعلم يعتبر هذا من أحد أسباب تقدمهم وتطورهم في خدمة مواطنيهم . لا أن يعتبروا القوانين سيفاً مُسلطاً على رقاب الناس فيذهبون لأقصى درجات التشدد عند تطبيق القوانين .
في عام ١٩٨٨ ، قمت بزيارة عمل الى يوغوسلافيا السابقة ، وتم ترتيب إستقبال مهيب لي في العاصمة بلغراد ، حيث حضرت نوبة مساء عند قبر رئيس يوغوسلافيا العظيم ( جوزيف بروز تيتو ) ، وكان شيئاً مهيباً عظيماً . ثم إتجهت أنا ومن يرافقني في زيارة العمل تلك الى جمهورية لوبليانا ( حالياً ) . وتم ترتيب زيارات عمل لمواقع عديدة ، وأثناء إحدى الجولات ، وإذا بالمُرافق يخبرني بان نقطة الحدود هذه بينهم وبين إيطاليا ، فإقترح عليّ إذا رغبت انه سيحاول ان ندخل الى إيطاليا ، حيث هناك قريباً من الحدود يوجد منتجع سياحي ضخم ، لنتسوق ، ونتناول طعام الغداء في ايطاليا ثم نعود ، قلت له مُستغرباً بانه ليس لدينا تأشيرات لدخول إيطاليا ، ردَّ المرافق بأنه سيحاول ، وانه يعتقد بانهم لن يُمانعوا ، وإذا تشددوا سنترك جوازات سفرنا لدى النقطة الحدودية . سُررت للفكرة ، مع قناعة أكيدة لديّ بانها فكرة أقرب للهوجائية او الرعونة . إتجه المرافق بالسيارة الى نقطة الحدود اليوغوسلافية ، وتحدث مع العسكري ، بأننا ننوي دخول إيطاليا ، وليس لدينا تأشيرات ، واننا نود التسوق من إيطاليا ، ونتناول طعام الغداء ونعود ، وتدخلت أنا عارضاً حجر جزء من جوازات سفرنا ، وان نُبقي بعض الجوازات لنعرض على الإيطاليين حجزها . إبتسم العسكري اليوغوسلافي ، وقال : انه لا مانع لديه من دخولنا اذا وافقت الجهات الرسمية الإيطالية ، وانه لن يحجز جوازات السفر ، وقال : تفضلوا . وكانت نقطة الحدود الايطالية لا تبعد سوى بضع عشرات من الأمتار ، وعندما وصلنا ، تحدث المرافق مع العسكري ، عارضاً حجز جوازات سفرنا ، إبتسم العسكري الإيطالي قائلاً : أهلاً بكم في إيطاليا ، ولا داعي لحجز جوازات السفر ، إدخلوا وإستمتعوا ، وأنا بإنتظار عودتكم ، وضماني الثقة بكم . وفعلاً دخلنا إيطاليا بدون تأشيرات ، ووصلنا المنتجع ، وتجولنا ، وتسوقنا ، وتناولنا غدائنا وعُدنا ، معززين ، مُكرمين ، وشاكرين لهم على ثقتهم بنا ، ومرونتهم في إنفاذ القوانين .
تصوروا لو حدث ذلك في وطني الحبيب !؟ لقامت الدنيا ، ولن تقعُد ، ولتم إتهامنا إما بالجنون ، او بأننا نكيد كيداً عظيماً خطيراً ، ولربما سُجِنّا ، او سُحِبنا ، او سُحِلنا !؟
الفرق بين العالم المتحضر وبيننا كعالم متخلف ، نعم متخلف — ما عليكم من التسميات التي يراد بها التخفيف من توصيفنا ، عالم ثالث ، او عالم نامي .. وغيرها — كل ذلك خِداع . المسؤول في العالم المتحضر يتعامل بروح القانون ، و( يمغط ) تفسير القوانين لأبعد مدى لِيسهّل ، وييسّر أمور الناس . أما نحن فالمسؤول يعتبر القانون سيفاً مُسلطاً يستله في وجه المواطن ليمارس عُقده ، وساديته ، وغروره ، وتخلفه على الناس .
أيها المسؤول ، يا إبن وطني ، انت موجود في موقعك لخدمة المواطن ، وراتبك ومزاياك مصدرها جيب المواطن ، وبقاؤك محدود المدة أقصاها بِضع سنوات ، وبعدها سَيلفُظك الكرسي الذي كنت تستند عليه لتمارس غطرستك وعنجهيتك ، وعُقدك ، وستحال على التقاعد ، وسيتم تجريدك من كل صلاحياتك ، وستعود مواطناً ، تضطر لمراجعة الوزارات والدوائر ، وستقف انت والمواطن الذي مارست عليه غطرستك بنفس الدور ، وعند ذِكر إسمك في المجالس ، فسيصنفك الناس بين مرتبتين لا ثالث لهما ، فإما تُلعن ، او تُحمد . ولو دامت لغيرك ما آلت اليك .
كل شيء مُتغير في هذه الحياة ، التي لا تدوم على حال ، لأن دوامها من المُحال . وحِكمة الحياة تكمن في عدم ديمومتها . ولا يدوم ، ولا يبقَ الّا وجه من خلقها سبحانه وتعالى .