د. عاصم منصور
لطالما تغنت الصين بتجربتها في «تصفير الحالات» في مواجهة جائحة كورونا وحاولت استغلال هذا النجاح في الترويج لقدرة نظامها السياسي على أن يزاوج بين ثنائية الحفاظ على صحة الإنسان ونمو الاقتصاد، فقد تبنت الصين منذ بداية الجائحة سياسة الإغلاقات الصارمة للمدن والأحياء فور تشخيص إصابات في هذه المناطق واتكأت في هذه الإجراءات على قوة الدولة وصرامتها في تطبيق التعليمات وعلى قاعدة بيانات دقيقة حول المواطنين والسكان من خلال جهاز رقابي صارم ومدجج بالتكنولوجيا يحصي على المواطنين حركاتهم وسكناتهم.
لكن هذه النجاحات لم تلبث أن تهاوت على وقع المظاهرات التي عمت المدن الصينية مؤخراً والتي أشعل جذوتها حادث وفاة عشرة أشخاص في مدينة أورومتشي تم حشرهم في بناية ومنعهم من الخروج تطبيقا للاجراءات المتبعة هناك للحد من انتشار العدوى. وقد تجاوزت شعارات المظاهرات المطالب الآنية برفض الإجراءات الحكومية إلى المطالبة بمزيد من الحريات السياسية معبدة إلى الأذهان مظاهرات 1989 الدامية.
ورغم قلة عدد المشاركين في هذه المظاهرات، وقوة وصرامة الأجهزة الأمنية إلا أن السلطات استشعرت الخطر، ورأت في هذه المظاهرات شرارة لحريق وشيك، ومؤشرا واضحا على ضيق المواطنين بالإجراءات القاسية التي تفرضها السلطات منذ ثلاث سنوات، بينما يشاهدون عودة الحياة الطبيعية في معظم دول العالم التي تبنت سياسات أكثر واقعية في مواجهة الوباء، وازنت من خلالها بين ضرورات الصحة ومتطلبات الاقتصاد والحريات.
لقد اضطرت السلطات تحت وطأت الضغط الشعبي الى الاعلان عن تراجعها عن بعض الاجراءات المتشددة واعلانها عن بعض التسهيلات على حركة المواطنين وحاولت أن تواري هذا التراجع خلف ربطه ببعض التبريرات العلمية أو بالدعاية لنجاعة الطب الشعبي في مواجعة الفيروس.
لقد كان العامل الاقتصادي حاضرا بقوة لدى السلطات عند اتخاذها هذه القرارات والتي من المتوقع أن تتبعها أخرى في نفس الاتجاه، فقد نتجت عن الاغلاقات المتكررة مؤشرات اقتصادية مقلقة مثل التراجع في عدد الرحلات الجوية الدولية بنسبة 45 % وعدد رحلات النقل الأرضي بنسبة الثلث وارتفاع نسبة البطالة بين شباب المدن والتي وصلت إلى 18 % مقارنة بـ9 % في عام 2018.
يؤشر تزايد عدد حالات الاصابات المؤكدة والمتوقعة خلال الاسابيع القادمة وعدم قدرة السلطات على اقناع شريحة كبيرة من المواطنين وخاصة كبار السن على أخذ اللقاح ونفاد صبر المواطنين تجاه سياسة «تصفير الحالات» التي تتبعها السلطات في مواجهة الفيروس إلى أن الصين مقبلة على شتاء ساخن.
وأختم مقالي هذا بما ختمت به مقال سابق كتبته عام 2020 ونحن في عز المعمعة « لقد أيقن العالم أن هذا الفيروس ليس ضيفاً عابراً، ولا حدثاً موسمياً، لذلك يتحتم علينا التعامل معه باستراتيجية طويلة الأمد توازن بين ضرورات الصحة واحتياجات الحياة بعيداً عن اللجوء إلى أقصى النهايات من الإجراءات المتخذة.
صحيفة الغد