د. محمد أبورمان
ليس من المفيد هنا أن نصنّف الناس إلى ملائكة وشياطين، أو نتلاوم، ونخضع لعقلية التصنيف والاستقطاب، سواء في تونس أو في مصر أو حتى في سورية أو في السودان، الجزائر وهكذا... إلخ، فهنالك قاعدة جوهرية أنّ الديمقراطية أفضل من الاستبداد والسلطوية، وأنّ الطريق إلى المستقبل لا يمرّ إلّا عبر شعوبٍ تمتلك الحرية ومتحرّرة، لكن من هو الديمقراطي ومن السبب في ما آلت إليه الأمور فهي مسألة أخرى، والأهم من ذلك كلّه أن نسأل سؤالاً معمقّاً بعد 11 عاماً على الربيع العربي: لماذا فشلنا؟ ولم تكتمل طموحاتنا وأحلامنا؟ والمقصود هنا البحث عن الأسباب البنيوية، فعلاً، الجذور والأخطاء أو الاختلالات الاستراتيجية، لعلّ ذلك يرشدنا إلى طريق ضللناه منذ قرون طويلة!
قرون؟ نعم دعونا لا ننسى ذلك، فنحن منذ مرحلة مبكّرة، أي لحظة الفتنة الكبرى، لم نعرف طريقاً إلى الحرية السياسية، ولم تشهد الأمة العربية تطويراً أو إعادة إنتاج لمفاهيم وقيم تقوم على تحريم الاستبداد والسلطوية وتجريمهما، بل، في أحيان كثيرة، وفي كتب الفقه والتراث الإسلامي، وفي الفلسفة السياسية وغيرها، النظرية التي سادت وانتشرت والثقافة التي هيمنت علينا هي ثقافة القبول بالاستبداد وسلطة المتغلّب وحكم القوي، وتفضيل الأمن والاستقرار والوحدة على الحرية، والشوكة على أهل الحلّ والعقد والعصبية على دعوات التغيير السلمية. وبالتالي، لم تتعزّز ثقافة مجتمعية حقوقية وسياسية تقوم على مراجعة جديّة لهذا التراث السياسي والميراث الشعوري.
كانت لحظة الربيع العربي إيذاناً بميلادٍ جديدٍ لثقافةٍ مختلفةٍ وجيل ثوري امتلك أسلحة "السوشيال ميديا"، التي كانت أقوى من العصي والهراوات والمعتقلات والدبابات، وهدم جداراً تاريخياً ورمزياً أهم بكثير من جدار برلين، بل من سور الصين العظيم، وهو جدار الخوف، وكسر نظرياتٍ أكثر تجذّراً من نظريات الجاذبية، وهي نظريات الاستثناء العربي من الديمقراطية، التي استسلم لها كثيرون ووظفها الحكام، لكن تلك اللحظة الإشراقية النورانية في تاريخنا ذوت بعد أعوام قليلة، ولم نحافظ عليها، وعادت النظريات والجدران والثقافات القديمة تتشكّل بصور تمويهية جديدة. وهذا هو السؤال الذي علينا أن نكرّره ونفكّر فيه مليّاً، لماذا فشلنا في الحرب، بعدما نجحنا في معركة صعبة وحاسمة مع الاستبداد في الجولة الأولى؟
أين هو رأس الأفعى وأين هو ذيلها في الحالة العربية؟ فقد سقط الدكتاتوريون والمستبدّون وهزم الناس مخاوفهم وخرجوا إلى الشوارع، وما تزال سياسات الشارع (على حد تعبير آصف بيات) هي التي تحكم الجيل الشاب الجديد، لكن هل فعلاً الزعماء هم رأس الأفعى، أم بنى الاستبداد المجتمعية والسياسية هي الرأس والحكّام هم الذيل؟ هل من الأجدى بالفعل اليوم أن نراجع مقاربات التحول الديمقراطي ومدارسه والتجارب العالمية، ونعيد قراءة التجربة العربية لاجتراح النظرية الخاصة بالعالم والمجتمعات العربية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لحظة الربيع العربي لم تنتهِ، في أسبابها وشروطها حتى وإن كانت نتائجها مخيبة وكارثية في أحيان كثيرة، وفي ضوء أنّ مدارس فكرية عربية كثيرة لم تعد تمتلك اليوم جواباً على أسئلة الواقع!
ربط هوبز باوم، مثلاً، التطور الديمقراطي الغربي بالتحولات الاقتصادية الكبرى، والدخول إلى عصر الصناعة والحراك الاجتماعي الذي أدّى إلى ولادة مصالح جديدة على حساب المصالح السابقة، وهي حالةٌ تمكن معاينتها بصورة مختلفة في العالم العربي، من خلال دور الطبقة الوسطى والشباب المعولم والمثقف، لكن العملية لم تستمر إلى النهاية المطلوبة؛ لأنّ القوى السياسية التي تشكلت في مرحلة الاستبداد، وكانت تمثل المعارضة هي التي قادت المرحلة الجديدة، وربما بمفاهيم قديمة، ولأنّ فشل الدولة في بناء المشروعات التنموية التي تقوم على الاعتراف بالتعدّدية في إطار مصالح مشتركة، واستبدال ذلك بتذويب الجميع بهوية معينة، أدّى إلى صعود الهويات الفرعية الأولية وانفجارها بمجرد انهيار النظام البوليسي؟!
ثمّة فرضيات وأفكار عديدة تحتاج إلى الاختبار، بما يساعد فعلاً على فهم: أين أخطأنا وما البديل؟ وهو الخيار الوحيد إذا أردنا استعادة الحلم.