الوزني يكتب: خُرافة العجز المالي


د . خالد الوزني


في كتاب صدرَ حديثاً ويحمل عنوان هذا المقال قدَّمت كبيرة الاقتصاديين السابقة للجنة الموازنة في مجلس الشيوخ الأمريكي، وأستاذة الاقتصاد والسياسات العامة، ستيفاني كِلتون Stephanie Kelton، كتاباً دسماً في السياسات الاقتصادية وفي فهم واستشراف آليات عمل الاقتصادات، ومنهجية عمل القائمين حالياً على السياسات المالية والنقدية، وحتى التجارية.

والجميل فيما قدَّمته البروفيسور كِلتون أنها نزعت القدسية والرهبة الزائفة عن خرافة العجز المالي في الفكر الأسطوري التقليدي الترهيبي، الذي يسعى القائمون على السياسات المالية إقحامه في الاقتصاد، وخاصة حينما يُسَوِّقون لرهبة وفزّاعة العجز المالي على غير المختصين، كما أنها نزعت أسطورة الترهيب والهلع من تبعات العجز المالي، والدثور الذي سيلحق بالاقتصاد، ما لم يفرض هؤلاء سياساتهم لإنقاذ البلاد والعباد من ذلك العجز، وما يتطلبه الأمر من تنازلات رهيبة في سبيل الحفاظ على المال العام. بل إنَّ تلك الأوهام، هي ما أوصلت العديد من دول العالم إلى فخ الديون والتخلُّف عن التنمية الحقيقية.

وسخرية تلك الأساطير والخرافات تكمن في عدم تحقيق أي جهد تنموي ملموس، وإنما بضرورة إقناع الجميع عن ضرورة البحث عن سبل جديدة لإيرادات أخرى، إلى الدرجة التي أصبحت فيها اللجان البرلمانية المعنية تهب لمساعدة الحكومة على إيجاد أبواب لإيرادات، بدعوى أنها أقل أثراً على جيب المواطن، أو المستثمر. الشاهد مما سبق، أنَّ البروفيسور ستيفاني كِلتون تقول بكل صراحة إنَّ هناك أربع خرافات، أو أساطير، ترتبط بالسياسات المالية والعجز المالي، بات دحض تلك الخرافات متطلباً أساسياً في خضم تقلبات الاقتصاد العالمي، خاصة بعد أن كشفت أزمة كورونا عن عورات السياسات العامة، والقائمين على تلك السياسات حول العالم. وتتلخص خرافات المالية العامة الأربع فيما يلي: الخرافة الأولى أنَّ موازنات الحكومات لا تختلف عن موازنات الأفراد، وبالتالي على الدول أن تعمل بمقولة "على قد لحافك مد قدميك"، ما يعني ضرورة العيش دوماً بفكر الضبط والتقنين وشد الأحزمة. أما الخرافة الثانية فتنبع من فكر أنَّ العجز دليل على الإفراط في الإنفاق. والثالثة، أنَّ الجميع في مركب واحد يجب أن يقوده ربّان المالية العامة، وعلينا أن نتبعهم في تقنين وخفض الإنفاق بشكل عام حتى لا نغرق، والرابعة والأخيرة، أنَّ العجز المالي يؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص، وتقليص فرص عمله في الاقتصاد أو قدرته على تمويل عملياته. الأساطير "الإغريقية" الأربع تقع في كنفها الدول ذات الأفق الاقتصادي الضيق، والتي لم تجد سياسة لتوسعة اقتصادها، وتحريك عجلته، فوقعت في فخ المديونية، والديون السهلة. دحض الخرافات الأربع السابقة يحتاج إلى صنّاع قرار يعتمدون الفكر التنموي في بناء الموازنات، وليس على توليف أرقام للنمو بأي ثمن بخس، بالاعتماد على الأرقام الصمّاء التي تستسهل جمع الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، على اللجوء إلى تنمية المناطق وخلق استثمارات، عبر مشاريع الشراكة التنموية الضخمة، أو حتى عبر الديون الرأسمالية الاستثمارية.

فزاعة الديون والعجز المالي أسهل من سياسات التنمية والوصول إلى المناطق ذات الموارد الاقتصادية، وجذب الأموال للاستثمارات العامة والخاصة على حدٍّ سواء.

موازنات الحكومات ليست كموازنات الأفراد، ذلك إنّ إمكانات الدول ومواردها المتنوعة أكبر بكثير من تلك المتوافرة للأفراد، والاختباء خلف مقولة "الإمكانات ضعيفة ومحدودة" هي سمات المسؤول غير القادر على الاستشراف، وغير المستعد للقفز خارج الصندوق لتوفير التمويل المناسب لمشاريع حيوية تنموية، وإنما قادر بجدارة على الاقتراض لتمويل رواتب، ومعاشات، وتقاعدات، وتمويل سداد قروض سابقة بقروض جديدة. والعجز المالي، بشكل الحالي، ليس نتاج الإفراط في الإنفاق، بقدر ما هو سوءٌ في إدارة المال العام، وفي توجيه النفقات وتخصيصها وترشيدها. وموازنات الحكومات وعجزها الرأسمالي التنموي، حتى لو تمَّ تمويلها من قروض محلية، لا تزاحم القطاع الخاص، بقدر ما تفتح أمامه مشاريع عمل، في البناء وفي الطرق، وفي الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي، وتخلق الوظائف في القطاعين سوياً.

صانع القرار الحصيف يطلق العنان للإنفاق المتوازن، وللشراكة مع القطاع الخاص، ويقود السفينة إلى بر الأمان والتنمية. وأخيراً وليس آخراً، بعيداً عن أسطورة، أو خرافة العجز المالي، وشماعة الإنفاق، والعجز، والمديونية، فإنَّ توسيع الإنفاق المتوازن، وتنويع المشاريع التنموية، التي تستفيد من موارد الدول المادية والبشرية، حتى لو كان تمويلها يؤدي إلى العجز المالي، هو السبيل لتحريك عجلة الاقتصاد، وخلق الوظائف، وهي تحتاج قيادة استشرافية خلّاقة تستطيع أن تقفز بالاقتصادات إلى ما بعد التحديات، إلى آفاق التوسُّع، والتنمية، والاستدامة، والتحديث والتطوير. دروس البروفيسور ستيفاني كِلتون يجب أن تُدَرّس لصنّاع القرار الحكومي في العديد من دول العالم قبل أن يتعلّمها الطلاب في الجامعات.