أسعد عشر ساعات في حياة الحسين

قليل هم الزعماء القدماء الذين ما زال ذكرهم عالقاً في الذاكرة، بل هم نادرون في قصص السياسة والاجتماعيات، ولعل من أبرزهم كان الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه، إذ ما زال طيفه حياً في كل زوايا هذا المكان الواسع، وإذ كان تاريخ ذكرى ميلاده التي صادفت يوم أمس قد أعادت الشجون للكثير ممن زفوا جثمانه تحت المطر المنهمر، فإن ذلك اليوم المصادف لميلاده كان بداية لأيام طويلة من احتفالات وطنية في كل المحافظات التي يجمع أهلها حب مليكهم الذي سجله التاريخ في الصفوف الأولى بين زعماء خلدهم التاريخ، فحياته العملية كانت?ملأى بالأحداث الجسام.

 

في رحلته للعلاج من المرض في الولايات المتحدة كان الحسين مواظبا على التواصل وتقصي الأوضاع في بلاده الأردنية والعربية، وبعد العودة الثانية للعلاج واستمرار مكوثه بين مجاميع الأطباء الذي يروي طبيب منهم كم كانوا يجلسون معه ويستمعون لاحاديثه، أحس الحسين بالملل من كل البروتوكولات الطبية، فخطط في سره لخروج هادئ من تلك المباني الطبية التي يضمها مايوكلينك في ولاية مينوسيتا الأميركية، لينعتق من الطوق الذي أحكم خصوصيته، واستغل يوما كاملا، مع مجموعة من مرافقيه ليخرج من المستشفى الى أي مكان، حسب رواية موثقة يؤكدها الوزير النائب ايمن المجالي وهي من أطرف قصص الحسين.

استقل الحسين سيارة فولكسفاجن صغيرة ومكشوفه، حيث ذهب بعيدا عن الأعين عبر طرقات الأرياف خارج المدينة، حتى وصلوا الى قرية لجماعة مسيحية معتزلة تدعى «الأيميش» وهم فرقة لها طقوس خاصة، إذ يعيشون بعيدا عن المدن ولا يشاهدون التلفاز على الأغلب ولا يمتلكون الهاتف كملكية خاصة سوى الاتصال، ولا يملكون سيارات خاصة إلا عند الحاجة بالأجرة، ويستخدمون العربات التي تجرها الخيول، فتوقف الحسين عند أحد أحيائهم، وتناول الغداء معهم وقام بزيارة معرض للمنسوجات التي يصنعونها بالطرق البدائية، واشترى منها، دون أن يعرف الكثير منهم من هو الزائر الذي أمضى سحابة يوم بينهم، أزالت غمة صدره.

الأطباء هناك احتاروا بعد غيابه، ولكنه كان يجلس بين أولئك الناس الذين يعيشون على بساطة العيش، وهو مستمع لأحاديثهم ومستمتع بتلك الفرصة التي لم يحلم بها يوما في حياته، مع أناس لا يعرفونه ولا يجاملونه لشخصيته، ولا يناقشونه في السياسة ولا في وجع القلب، حتى اقترب المساء ليعود الى المستشفى حيث الاستقبال من الجميع، فقال لهم: «لقد أمضيت أسعد يوم في حياتي دون تكلف ولا رياء».

هناك الكثير من الطرائف التي وقعت في حياة الحسين، ولكن من أجملها هي اللحظة التي يتعانق مع البسطاء من شعبه بعيدا عن التكلف، ونباهته وذكاؤه الفريد كانتا تقودانه الى تحسس مواطن الضعف أو الخطر غير المرئي، وعندما يتعب من المسؤولين يذهب من فوره الى مناطق بعيدا عن عمان ليلتقي بالناس ويسمع منهم صدق الحديث، وهذا كان الحائط القوي الذي يستند اليه، فيزفونه بالورد والأهازيج، ولا يغلّب مسؤولا على مواطنيه، فالحكم بالنسبة اليه هو الرافعة الشعبية، وتجاوزه عن صغائر المناكفات مع الدول الأخرى جعلت منه حكيما مقبولا عند أهل الشرق والغرب... رحم الله الحسين.