د. محمد أبورمان
كان واضحاً في الأردن أن رسائل ملكية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تلت مباشرةً تسليم اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية نتائجها للملك في الشهر الحالي (أكتوبر/ تشرين الأول)، والتي شملت مسوّدات قوانين انتخاب وأحزاب ومقترحات لتعديلات دستورية وتوصيات لتطوير الإدارة المحلية ولتمكين الشباب والمرأة. تمثلت الرسائل المباشرة بلقاء الملك برؤساء الوزراء السابقين وسياسيين بارزين، إذ أكّد الملك في اللقاء على أنّه لا بديل عن طريق الإصلاح السياسي، ولا تراجع عن هذا المسار. والرسالة مزدوجة: الأولى، للمشكّكين في جدّية الملك، هذه المرّة، في الإصلاح السياسي، وفي المضي في خريطة الطريق، ضمن الإطار الزمني المحدّد، للوصول إلى حكوماتٍ برلمانيةٍ حزبية، عبر تطوير متدرّج. الثانية، للمخوّفين والمثبّطين والمحافظين، بخاصة من كبار المسؤولين السابقين والسياسيين الرافضين أي تغيير، فالجواب الملكي واضح أنّ القصة، هذه المرّة مختلفة، والملك مصمّم على المضي إلى إنجاز ما وعد به.
يعرف الملك تماماً أن بعض المسؤولين والسياسيين السابقين، حتى أولئك المحسوبين على النظام تاريخياً، لا يكتفون بتخويفه وبتحذيره من مغبّة السير في طريق تمكين الأحزاب وتطوير الحياة البرلمانية، بل في جلساتهم ولقاءاتهم الخاصة ومع الدبلوماسيين الغربيين يشكّكون في مدى وجود قرار فعلي بإحداث "نقلة نوعية" تاريخية في الحياة السياسية في البلاد، كما طلب الملك من رئيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في رسالة تشكيل اللجنة.
رئيس اللجنة نفسه، سمير الرفاعي، كان تقليدياً محسوباً على التيار المحافظ، أباً عن جدّ، لكنّه اليوم يتحدّث، بصراحة وبلا مواربة، أمام الجميع وفي الجلسات المختلفة، أنّه لا توجد طريق أخرى غير التحوّل الديمقراطي وتوسيع قاعدة القرار وتحديث المنظومة السياسية، لضمان مستقبل أفضل للبلاد، وأنّ هذه قناعة الملك العميقة التي ينفذها شخصياً.
الواضح أنّ هنالك شخصيات عتيقة (قريبة من السيستم) ما تزال غير مقتنعة بالتحوّل الفكري والسياسي في مطبخ القرار، ولم تُنصت جيداً لما يقوله رئيس اللجنة، ولم تستطع أن تقرأ موقفه الجليّ؛ وما زالت تشاغب وتعمل ضد هذا الخط، فجاءت الرسائل الملكية ردّا واضحا أنّهم يسيرون اليوم في الاتجاه الخاطئ، إذا كانوا فعلاً يعتقدون أنّهم يخدمون الملك أو النظام، فهم مخطئون.
أما الرسالة غير المباشرة من الملك، ولا تقل أهميةً عن الأولى، فتمثّلت في لقاء مدير المخابرات العامة، اللواء أحمد حسني، بكتّاب وصحافيين ورؤساء تحرير، استمرّ أربع ساعات متواصلة، لكن الرسالة الأكثر أهمية في كل ما قاله الرجل فيما يخص موقف الدائرة (أي المخابرات) تجاه "الإصلاح الملكي"، إذ كان السياسيون يتهامسون بأنّها ستقف ضد المخرجات، لأنّها (المخرجات) تتصادم مع قناعاتها ومواقفها المعروفة، كما أنّ هنالك مخاوف لدى الشباب من الانخراط الجدّي في العمل الحزبي والسياسي، لتبعاته الأمنية المرتبطة بالترسبات التاريخية المعروفة.
فاجأ مدير المخابرات الإعلاميين بتأكيده على ضرورة الإصلاح والالتزام بالخط الملكي، وبإدراكه التغييرات العميقة التي حدثت في المجتمع، وعدم قدرة الوسائل والأفكار التقليدية على مواجهة جيل الشباب وثقافته وضرورة فتح أبواب العمل العام لهذا الجيل، وإطلاق طاقاته وقدراته في الاتجاهات الصحيحة.
يمكن القول إنّ هذا اللقاء استثنائي، يؤكد على ما ورد في بداية شهر فبراير/ شباط الماضي، في رسالة الملك إلى مدير المخابرات، بضرورة ترسيم عمل الدائرة ضمن النطاق الأمني، وترك المجالات الاقتصادية والسياسية لتقوم بها المؤسسات المعنية. وفي الأثناء، كان هناك نشاط إعلامي رسمي في ترويج نتائج اللجنة وأعمالها واللقاء بأعضائها، ما يؤكّد أن هنالك ورشة خلفية بدأت تعمل، وماكينات تشتغل للانتقال إلى المرحلة الجديدة من ترجمة النتائج على أرض الواقع، بالتزامن مع حراك شبابي وحزبي لإعادة تأهيل الحياة الحزبية وتطويرها، لتكون قادرة على مواجهة التحدّي والاستحقاق الجديد.
مقدّمات مشجعة في الأردن، لكنّها تحتاج أيضاً رسائل أخرى موازية تتعلق بالحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، وتأكيد استقلالية القضاء والمؤسسات المختلفة، وتشجيع المجتمع المدني على القيام بدور مهم ومؤثر في الانتقال السياسي المنشود، لأنّ هذه بمثابة شروطٍ رئيسية لتوفير البيئة المناسبة للعمل العام والسياسي، وبغيرها كمن يزرع في أرض بور لا ينبت فيها زرع ولا يثمر.