محمد ابو رمان
بحضور نخبة من السياسيين والأكاديميين والمثقفين ورئيس الجامعة الأردنية، د. نذير عبيدات؛ أطلق مركز الدراسات الاستراتيجية، أمس، كتاب "حكايا الحسين مع الناس: ملامح من خصوصية الاجتماع السياسي الأردني”، للباحث الأنثروبولوجي والإعلامي الزميل أحمد أبو خليل، الذي يتناول ما أطلق عليه المؤلف "التاريخ غير الرسمي” لصورة الحسين لدى المجتمع الأردني، التي يمكن التقاطها وتشكيلها عبر حكايا الناس وشهاداتهم لروايات وقصص وأحاديث عن الراحل الملك الحسين.
يقول أحد الذين التقاهم المؤلف "لا يوجد بيت أردني لا توجد فيه حكايا وقصص متعلقة بالملك الراحل”، الذي اعتمد في موازاة السياسات الرسمية، سياسات شعبية مرتبطة بعلاقة خاصة نسج خيوطها الحسين بنفسه مع الأردنيين، فوضع صبغته الخاصة في الحكم، وصار هنالك تاريخ موازٍ للتاريخ الرسمي، مرتبط بالذاكرة الشعبية التي لم يكن الملك الحسين شخصاً بعيداً عنها أو شخصية غامضة أو فوقية بالنسبة لها، بل كان قريباً، "مريحاً”، كما يصفه كثيرون يمكن بسهولة أن تدخل معه في قصة جدية أو حتى مزاح، ويفاجئك بردود أفعال وتصرفات بسيطة تتناسب مع طبيعة الشخصيات التي تقع ضمن دائرة القصة أو الحكاية!
هذه الصورة لا تحملها بالضرورة كتب التأريخ ولا المراجع الأكاديمية التقليدية، لكنّها تحمل قدراً كبيراً من الأهمية وتعطي نمطاً آخر من أنماط الشرعية السياسية، وهي كما يؤطر أبو خليل في بداية الكتاب شرعية خاصة مرتبطة في كل دولة من الدولة بخصوصيتها، وفقاً لأدبيات الاجتماع السياسي، ففي كتابهما "السياسة المقارنة”، يذكر المؤلفان (برتراند بادي وغيهارت) أن "السلطة والمشروعية والسياسة لا تعني الشيء نفسه في كل مكان، وأن بإمكانها أن تتحقق هنا أو هناك بأشكال مختلفة”.
يعلق أبو خليل على ذلك بالقول "لقد عمد الحسين إلى صياغة تركيبة من الشرعيات وتنقل بين عناصرها بمرونة عالية، وقد برز ذلك بوضوح، وبشكل خاص، بعد أن تجاوز سنواته الأولى من الحكم، ويتعين على الباحث في خصوصية الاجتماع السياسي الأردني، أن يواصل دوماً الالتفات إلى ذلك، إذ لم تكن الشرعية الدينية، على سبيل المثال، تكفي وحدها في مجتمع تحضر في العشيرة والقبيلة بقوة، ولهذا ظلت مفردة "عشيرتي” مثلاً حاضرة في خطاب الملك الوطني الموجه للداخل، وفي عقد التسعينيات أطلق الملك على صالات الاستقبال في باحات قصر رغدان تسمية "مضارب بني هاشم” ووضعت يافطات تشير إلى ذلك في الشوارع المؤدية إلى الموقع، لكن الملك حسين، وبالتوازي مع هذا، أدار عملية "تحديث محافظ”، وفق تعبير برتراند بادي وغيهارت، تمكن من خلاله من إجراء اقتباسات حديثة حلت محل البنى التقليدية التي لم تعد صالحة في ظروف معينة، أو ترافقت وتزامنت مع ما هو صالح وضروري”.
إذاً الثيمة الرئيسية التي يؤسس عليها المبدع أبو خليل كتابه الجديد هي البحث عن التاريخ الأكثر فعالية وتأثيراً في فهم الاجتماع السياسي الأردني، أو ربما نقول (والكلام لي هنا) السرّ الذي لم يفهمه كثيرون في علاقة الحسين بالشعب الأردني، السياسات الشعبية (المقصود ليس الشعبوية، بل سياسات ومواقفه وسلوكه مع المواطنين العاديين) وهو "تاريخ الحكايا” والقصص، وهنا يستشهد المؤلف بكتاب إيريك سيليين (أستاذ العلوم السياسية المهتم بالحركات والثورات الاجتماعية في كتابه الثورة والتمرد والمقاومة) الذي يقول "إن الحكايا تساعد على تقديم تفسير أفضل للأفعال الإنسانية الأساسية”، إلى أن يصل سيليين إلى القول "إذا كانت حقيقتنا البيولوجية هي التي تجعلنا أدميين، فإنّ حكايانا هي التي تقرر من نكون كشعب”.
ويخلص أبو خليل من ذلك إلى تقديم فرضية الكتاب الرئيسية "لقد اختار الملك أن يصنع صيغته الخاصة من ممارسة الحكم، ويطرح هذا الكتاب فرضية تقول إن ذلك شكّل أسلوب الملك في فهم الحكم، الذي في مقابله وفي التفاعل معه تشكل أسلوب الشعب في فهم الملك كحاكم، وهو ما يزال يلقي بظلاله على علاقة الشعب الأردني بالدولة والسلطة ككل”.
لقد أحسن المؤلف في وضع الإطار المفاهيمي والمنهجي -بدايةً- الذي من الضروري أن نفهم من خلاله هذا الكتاب أو الإنتاج البحثي والمعرفي، فهي ليست قصصا وحكايا للتسلية وتتجاوز موضوع الذاكرة الجمعية للأردنيين -على أهميته- إنّما يريد أن يصل من ورائه لاستطاق ديناميكيات فاعلة ومهمة في ترسيم علاقة الملك الحسين بالشعب (الكتاب متعلق بالسياسة الداخلية)، تتمثل في "نمط خاص” من العلاقة، لا تجده غالباً في كتب التاريخ ولا في الروايات الرسمية، بل في الصورة الشعبية، وفيما يتناقله الناس من قصص وحكايا، قد لا تبدو ظاهرة أو مرئية لمن يعيد قراءة سيرة الحسين، لكنّها تشكل عاملاً مهماً ورئيسياً من عوامل شرعية الملك الراحل وأسلوبه في الحكم وإدارة البلاد، وفي معادلة الحكم غير الرسمية بينه وبين الشارع.
الكتاب يتكون من قسمين رئيسين؛ الأول يستله المؤلف من كتب المذكرات لمن عرفوا الحسين عن قرب، منذ مرحلة الطفولة المبكرة في مدرسة المطران والكلية العلمية الإسلامية مروراً بفكتوريا، ثم سنوات الحكم الأولى، وصولاً إلى السبعينيات (التي شهدت بعد ذلك استقراراً مشهوداً وتنمية وتحولاً في التحديات التي تواجه الملك، فكانت قبل ذلك وجودية ومصيرية)، ويركز أبو خليل، في هذا السياق، على القصص التي تناولت شخصية الحسين وطبيعته وعلاقته مع زملائه ورفاقه في المدرسة، ليضعنا في إطار البعد الإنساني في شخصيته وهو البعد الذي لم يختف أو يغب في ممارسته الحكم لاحقاً، بل كان أحد معالم "مدرسة الحسين” في الحكم.
في الجزء الثاني من الكتاب، يقدّم لنا أبو خليل بمهارة فائقة خمس عشرة شهادة من شهادات لشخصيات مختلفة ومتنوعة، ممن عايشوا الحسين وعملوا معه، سواء كانوا وزراء ومسؤولين أو ضباطا أو إعلاميين، ويفاجئنا ببعض الشخصيات مثل المعلق الرياضي المشهور محمد جميل عبد القادر، الذي يحتفظ هو الآخر بحكاياه مع الحسين، ولعلّ المؤلف يريد أن يقول لنا -من خلال هذا التنوع الفريد- أنّ الملك الحسين لم يكن محتكراً من قبل فئة معينة، ولم يكن من النوع الذي يضع حواجز بينه وبين الناس والمواطنين، فلقد كان كثيرون يشعرون بأنّ هنالك علاقة خاصة بينهم وبين الملك الراحل، الذي أتقن بالفعل فنّ التعامل مع الناس وعرف الطريق إلى قلوبهم وعقولهم.
هذا الكتاب يمثل مفتاحاً لنعيد قراءة تاريخنا وتجربتنا السياسة -كأردنيين- بصورة مختلفة ومغايرة عما تعودنا عليه، يلفت الانتباه إلى جوانب موجودة لكنها لم تدرس، مثلما هي علاقة الهاشميين عموماً بالشعب الأردني، أو ما يسميه الباحث خصوصية الاجتماع السياسي الأردني، فلا يوجد -كما أزعم- من الأجيال الأردنية المتلاحقة منذ الأربعينيات في القرن الماضي، وحتى اليوم (ممن عاصروا الملك الراحل) من لا يحتفظون بـ”كمشة حكايا” عنه، شكلت الذاكرة الجماعية للأردنيين، لكن أحداً -فيما أعلم- قبل أحمد أبو خليل ومركز الدراسات الاستراتيجية وكرسي الملك الحسين (الذي أسسه المركز) تناول هذا الجانب المهم في إدراك وفهم التاريخ السياسي وأسس الاجتماع السياسي وشرعية نظام الحكم وأسلوب الحسين وسياساته الشعبية والثقافة الشعبية.. وغيرها من حقول معرفية وبحثية مهمة.
تناولت كتب سابقة قصص وحكايا الحسين غير المنشورة، يمكن أن نذكر هنا العديد من القصص المشوقة في كتاب "من السلاح إلى الانفتاح: سيرة الأمير زيد بن شاكر” لزوجته نوزاد الساطي، وكتب المذكرات جميعاً ستجد فيها قصصا خاصة، لملك حطّم الجدران والقيود بينه وبين الجميع، بداية من المسؤولين وصولاً إلى رجل في قرية السردية يأخذه إلى مكان بعيد عن الناس ليخبره كيف أنه لا ينجب بعد أعوام من الزواج!
ثمة صبغة خاصة تميّز فيها الحسين، ورثها عن جده ووالده وأورثها للملك عبدالله الثاني، وهي البساطة في التعامل مع الناس، ورفع القيود والحواجز، وتغليب الجانب الإنساني والتجاوز عن الإساءات، والتسامح حتى مع من حاولوا الاغتيال والقتل، والاعتدال في المزاج والمواقف والسياسات، والرأفة بالجميع، هي جوانب يعرفها أغلب الناس لكنّها لا تكتب، وهذا تقصير منّا جميعاً.
ربما المفارقة تكمن هنا أنّ أحد الكتب المهمة والبارزة في هذا السياق هو كتاب الكاتب والمثقف الراحل، ناهض حتر "الحسين بقلم يساري أردني”، الذي أسهم في الإضاءة لجوانب متعددة من حياة الحسين ورؤية السياسيين له، من أطياف وألوان متعددة، وهو ما نجد قبيله في كتاب عبداللطيف عربيات "صفحات من حياتي”، وهو رئيس مجلس النواب الأسبق وأحد أبرز القادة التاريخيين للإخوان المسلمين في الأردن.
يذكر أن كرسي الملك الحسين تأسس قبل أربعة أعوام ضمن نطاق مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وقد قام خلال الأعوام السابقة بالعديد من الجهود لتقديم إنتاجات معرفية تسلط الضوء على حقبة الحسين وسياساته والأردن خلال تلك المرحلة التاريخية المهمة.