التشدد .. ليس من .. التعبد

أتجنب الخوض في المسائل الدينية ، وأحرص على البعد عنها ، والاقتراب من أتونها ، لأسباب عديدة منها : لأنني لست متخصصاً ، ومعرفتي فيها ليست متعمقة ، ولانها قضايا إشكالية ، يصعب على الانسان الإلمام بها ، والتمكن منها ، والقطع في طروحاتها . والدليل على ذلك انك لو جازفت وسألت رجل دين ممن يُسمون مُفتين ، سؤالاً محدداً ، مُختصراً ، تود اجابة واضحة قاطعة بحرمة هذا الشيء او حلاله .  فانه يُغرِقك أكثر ، ويلخبطك ، ويُشكِل عليك حتى فيما كنت تعرفه ، لدرجة انك لا تعرف يمينك من شِمالك ، فيقول لك : رأي أبي حنيفة ، والمالكي ، والشافعي ، والحنبلي ، ثم ينتقل لمرحلة اكثر تعقيداً عندما يبدأ بسرد وتسلسل جمهور الفقهاء ، والسلف الصالح … الخ ، وفي النهاية تتشوش ، وتتلخبط ، ولم تحصل على إجابة . هذا عدا عن استخدام عبارات : يستحسن ، يُحبذ ، يُفضّل .. الخ . 

 

لا أتعصب لديني الاسلام العظيم الحنيف ، لأن التعصب إنغلاق وتحجُّر . لكنني أنصهر به ، وأقوم بكل العبادات التي أمرني بها رب العرش العظيم . لكنها لا تأخذ حيزاً من ذهني ، لأن تركيزي الرئيسي ، وحرصي ، ينحصر في مراعاتي للالتزام بما امر الله به ، ونهى عنه ، في مراعاتي للمعاملات ، فهي شُغلي الشاغل ، وضميري متيقظ ، متحفز ، حريص ، متوثب ، يترصد كل إيماءة ، او حركة او تصرف ، وارقُب نفسي بكل حركاتها وسكناتها بان لا أحيد قيد أنملة عن الصواب في معاملاتي وتعاملي قدر إستطاعتي . 

أحترم  كل الاديان السماوية ، ولها مرتبة  سامية في ذهني . وأُجرِّدها من كل دنس التصق بها ، وهي منه براء ، لأنها أديان سماوية ، سامية ، راقية ، إنسانية ، مسالمة ، من يلتزم بها يكون طيب المعشر ، نقي ، تقي ، صادق . فمثلاً لا أُحمِّل الاسلام الحنيف شرور ودموية أفعال كل المتطرفين المنحرفين عن نهجه العظيم ، كما القاعدة ، وداعش ، وكل أصولهما وجذورهما ، ومنبتهما . كما لا أُحمِّل المسيحية  شرور افعال الصليبيين وغيرهم في حروبهم ، ولا أفعال الفرنسيين الذين كانوا يقتلون الجزائريين ، ويستخدمون رؤوس القتلى في ديكورات بعض مبانيهم ، وفي عصرنا الحالي يرفعون شعارات كاذبة زائفة عن حقوق الانسان ، وحرية المرأة ، ويدّعون كرههم لإسالة الدماء ، والمسيحية منهم ومن أمثالهم براء . كما انني لا أحمِّل الديانة اليهودية شرور وخبث أفعال الصهيونية إطلاقاً ، فاليهودية من الحركة الصهيونية براء . والادلة على صحة ذلك كثيرة جداً . وللتدليل اذكر موقف حركة (( ناطوري كارتا )) اليهودية ، التي وصل اعداد منتسبيها الى ما يقارب المليونين ، الرافضة للصهيونية ، ويناصبونها العداء ، ويدعون رب العباد في صلاتهم ان يُزيل الكيان الصهيوني من الوجود لانه شوّه ديانتهم . يضاف الى ذلك رفض الكثير من العلماء والمفكرين اليهود للحركة الصهيونية مثل العالم والمفكر اللغوي والسياسي / نَعُّوم تشومسكي . 

كما انني أحترم أدبيات الاديان الوضعية التي قرأت عنها القليل المتاح . لانها تحض على مكارم الاخلاق ، والقيم الانسانية النبيلة ، مع رفضي لوثنيتها . ليس هذا فقط ، بل انني أحترم غالبية الأحزاب العقائدية ، لانها في ادبياتها تحض على الفضيلة ، وتدعو الانسان الى الخُلق الحسن ، ليكون مواطناً صالحاً . وعلى مدى علمي المتواضع ان غالبية ادبيات الأحزاب هي مستمدة من الاديان . 

ما حفزني لكتابة هذا المقال ، ما الحظ من تشدد ، وبُعد عن التيسير ، في دين اليسر والسماحة ، دين  الاسلام العظيم . لأنني أرى ميلاً للتشدد في الإفتاء ، حتى في الأمور الحياتية البسيطة ، كما أرى  تناقضاً واضحاً في الفتوى بين حين وآخر ، هذا عدا عن اختلافها بين مُفتٍ وآخر  . 

سأسرد هنا بعض الامثلة : —  ١)) حَرَموا  الكثير من الأُسر من إمتلاك بيتٍ يأويهم  بتحريم الحصول على قروض من البنوك لانها ربوية ، ومنذ مدة يزداد عدد من يفتون بانها  بنوكاً تجارية وليست ربوية ، ولديّ العديد من القصص المحزنة والمضحكة حول ذلك . ٢)) كانوا يقولون لا تصح صلاة المسلم الا جماعة في المسجد ، لكن جائحة كورونا بينت لنا ان الصلاة اصلاً حيثما تكون ، وليس هناك إلزاماً لان تكون الصلاة في المساجد . ٣)) كانوا يقولون لنا ان لمس يد الزوج ليد زوجته ينقض الوضوء ، حيث كانت تتكرر في البيوت كلمة ( صِبتني ) يقولها الازواج لبعضهم اذا تلامست أياديهم !؟ والآن يقولون لنا ان تقبيل الرجل لزوجته لا ينقض الوضوء . ٤)) مفهموم اللباس الشرعي ، يصعب عليّ الخوض فيه لتعقيداته . لكنني مقتنع بمفهوم العلاّمة الاستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد ، بان اللباس الشرعي يُلزم بتغطية نحر وصدر المرأة وان كشف الشعر ليس عورة . ٥ )) تحريم مُعايدة والترحم على غير المسلمين ، وفرد المنكبين في الطريق للتضييق على غير المسلم ، وهذا اعتبره هُراءاً وتخلفاً ، وان من يدعون اليه متشددون ، متعصبون يُسيئون للاسلام . ٦ )) حُكم حُرمة عمل المرأة ، وهذا أيضاً إنغلاق وتخلف ، وبدأ الكثير من رجال الدين نفيه والتأكيد على انه ليس من الدين في شيء . ٧)) زكاة الفطر ، أناس يصرون على اخراجها من بُر فقط ، واخرون يفتون بجواز اخراجها من مواد غذائية أساسية ، وطرف ثالث يجيز اخراجها نقداً . ٨)) أتذكرون فتوى أحدهم عندما قال ما لهذا خُلقنا !؟ على الغرب اي يصنّع وينتج لنا ، ونحن معشر المسلمين مهمتنا الدنيوية بالتفرغ للعبادة !؟ وغير ذلك الكثير الذي يصعب حصره . 

أقول  للمسلمين ، واتباع كل الديانات ، الذين يفتون بالتشدد من علماء  كل الاديان ، انهم يتجرأون على حدود  الله سبحانه وتعالى ، وان غايتهم شخصية ، أنانية ، يهدفون منها ان يكون لكل شيخ طريقته ونظرته للدين ، والدين منهم براء . التشدد في الدين يؤدي الى النفور منه ، والتشدد ليس تعبداً إطلاقاً . لا تلتفتوا اليهم ، هؤلاء اغلبهم متكسبون ، ومن يتكسب من دين ، فهو بعيد عنه ، ومن يتخذ من الدين وظيفة يوجه فتاواه لسيده الذي يُغدق عليه عندما يجد لفجوره سنداً من دين . على مستواي الشخصي ، بكل بساطة وتواضع أُسيِّر أمور ديني بالاستناد الى القرآن الكريم ، وما صح من الحديث النبوي المنسجم مع كتاب الله ، ولا آخذ بكل  ال ( ٦٠,٠٠٠ ) حديث التي يُشاع على انها من أحاديث سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وما يَشكُل عليّ لغوياً ، أستند  على أحد معاجم اللغة ، وأستفتي قلبي في المتشابهات ، وما عداها فالحلال بيّن ، والحرام بين .