محو الامية في عصر التحديات الرقمية والوبائية

يحتفل العالم اليوم "باليوم العالمي لمحو الأمية" والذي يأتي للسنة الثانية على التوالي في ظروف وبائية معقدة فرضتها جائحة عالمية أثرت بشكل مباشر على كافة مناحي الحياه ، هذا الوباء الذي مازال في علم الغيب ، والتوقعات تشير إلى بقائه لإشعار آخر ، والحلول الحتمية تكمن في تحصين انفسنا بالمطعوم ، لكن ظروف الوباء وما فرضه من قيود وألقاه من ظلال وخيمة ، أعاد مفهوم الأمية بمعناها التقليدي إلى الواجهة ، حيث ان شبح الأمية في يومها الدولي هذا أكثر وطأة وأثقل أثراً ، فالدول التي كانت تعاني في زمن ما قبل كورونا من ضعف أنظمة التعليم ، تتجرع قدراً أكبر من صعوبات الإبقاء على الطلاب في مدارسهم أو على الأقل في مقاعد الحاصلين على شكل من أشكال التعليم ، والدول التي كانت تعاني صراعات داخلية مسلحة وتتعرض شعوبها لموجات تهجير ونزوح داخلي وخارجي تجد نفسها قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى مربع الصفر في محاربة الأمية.

 

 

لكننا ورغم كل الظروف والاحوال وحين ننظر إلى الوجه الآخر لجائحة "كورونا" نجد أنها فتحت الأبواب مشرعة أمام الإصرار على مواجهة أي تحديات تهدد التنمية، وما الأميَّةُ إلا واحدٌ من أهمِّ تلك التحديات والمشكلات التي تقف عائقاً أمام ازدهار وتطوُّر الشعوب والمجتمعات ، فكما أنَّ كورونا أوقفت عجلة الحياة بسبب الإجراءات الاحترازية التي وضعتها الدول حذراً من انتشار الوباء ، كذلك فإنَّ الأمية تُعدُّ من أهم العوائق التي تُعطِّل أيَّ خطط تنموية ترتقي بالاوطان وتنهض بالشعوب ، وهذا ما يدل أنه قد حان الوقت كي نتعاملَ مع الأميَّة كمشكلةٍ رئيسةٍ ، وإنَّ درس "كورونا" مفاده أنه لا مجال لأيِّ تحديات مهما بلغت من إيقاف عجلة التنمية والازدهار ، وما الاردن كأحد الدول التي واجهت هذه المشكله إلا أكبرُ شاهد على ذلك.

 

لقد تابعنا كيف كان لتعليق الدراسة بسبب "الجائحة" أثَّر بشكل سلبي على المتعلمين الذين يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة ، وذلك على الرغم من رغبة هؤلاء باستكمال التعليم ، لذلك فان الخطوات الأساسية اللازمة لاستئناف برامج تعليم الكبار ، وضمن الظروف والمستجدات التي تفرضها الحياة المعاصرة لا بدَّ من الاستثمار في تدريب معلمي "الكبار" على تقنيات "التعلم عن بُعد" بما في ذلك تقديم الدعم النفسي والفني للمعلم الذي يجب أن يتخصص في هذا النوع من التعليم ، اضافة الى ضرورة تطوير محتويات تعلُّم مرنة وجاذبة، والاستخدام الأمثل للوسائل التقنية قليلة التكلفة للوصول إلى الفئات المهمشة التي تحتاج الى التعلم ، إضافةً إلى تفعيل آليات التنسيق مع المجتمع المحلي ومؤسسات المجتمع ، وإعادة التفكير في آليات استقطاب ذوي الحاجة للتعلم وتحفيزهم على متابعة تعلمهم بالطريقة التي ترقى إلى المستوى المطلوب .

 

انني وانا اتحدث عن هذا الموضوع خاصة ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين قرن العلم والمعرفه ، قرن التكنولوجيا والتحديات الرقمية ، نجد أن لا بد من يخرج تفكيرنا من المفهوم التقليدي "للاميه" فبدلاً من إحياء هذا اليوم كما هو كل عام ، يجب التنويه إلى أن الأمية الجديدة هي الأمية الرقمية أو المعلوماتية أو التقنية، ولا بد من التركيز على الجودة والالتفات إلى الشمول في التعليم ، على أن يكون فرصة للجميع يتم تعزيزها مدى الحياة ، حيث ان معنى محو الأمية في عصرنا، ليس مجرد القدرة على القراءة والكتابة، أو حتى مجرد استخدام التكنولوجيا، بل لكي يمحو المرء أميته في القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون على استعداد للتعلُّم الدائم والمستمر والتكيف مع العديد من مجالات الحياة والبيئات والمواضيع المختلفة ، لذلك فانا أجد أن على العالم أن يحبس أنفاسه اليوم ، ويعتبرها فرصة للتأمل والتفكر ، إذ كيف يمكن تقليل خسائر الوباء التي ألقت بظلالها على تفاصيل الحياة الكبيرة والصغيرة والتعليم وفرصه وجودته وعدالته على رأسها ، وكيف يمكن استخدام طرق التدريس المبتكرة والفعالة ضمن برامج محو الأمية للشباب والبالغين لمواجهة الوباء وما بعده؟

 

ان علينا إعادة النظر في طرق واساليب تعلُّم الكبار بإضافة المهارات الأساسية المطلوبة لسوق العمل الجديد والتي ينبغي أن تُقَدَّم للمتعلمين بما يتناسب مع متطلبات الثورة الرقمية الرابعة وسوق العمل المتسارع والمعتمد على التكنولوجيا، وتغيير في أنماط التعلُّم بما يتناسب مع ذلك ، اضافة لضرورة التحوُّل من محو الأمية إلى مقتضيات منهجية وفلسفة التعلم مدى الحياة ، فضلاً عن توسيع المبادرات المعنية بخدمة تعليم الكبار بما يشمل الإدارة والضبط والحوكمة، والتعاون مع رجال الأعمال للاستثمار في برامج ما بعد القرائية، واستحداث وتطوير هياكل مؤسَّسات وطنية تعنى بتعليم الكبار تتماشى مع مقتضيات العصر وفلسفة التعلُّم مدى الحياة ، مع عدم إغفال الحاجة الملحة إلى سياسات وقوانين جديدة على المستوى الوطني لإدارة والتنسيق مع عصر الرقمنة.

 

اعود إلى القول اننا بحاجة الى مزيد من الإجراءات التي يمكن أن يكون لها الأثر في معالجة الأمية،  مع ضرورة إدماج طرق التدريس المبتكرة والفعّالة ضمن برامج محو الأمية لمواجهة الوباء وما بعده في كنف العدالة والإنصاف والاندماج وجودة الخدمات ، إضافة إلى التأكيد على استخدام التكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي والموارد التعليمية المجانية وتشجيع المبادرات المتعلقة بها، لتوسيع الحصول على فرص تعلُّم القراءة والكتابة، وتحسين الجودة، وإنشاء بيئة تعليمية رقمية تساعد على الحفاظ على مهارات محو الأمية المكتسبة وتطويرها.

 

 واخيراً اعود إلى التأكيد اننا لم نعد أمام أمية واحدة وهي الأمية الأبجدية، وإنما أُضيفَت إليها أمية أخرى وهي الأمية الرقمية ، خاصة أنَّ الحاجة تشتد إلى المهارات الرقمية ، ذلك أنَّ اغلب وظائف المستقبل تحتاج إلى المهارات الرقمية، والمشكلة أنَّ هاتين الأميتين أو الفجوتين أضيف إليهما وباء كورونا الذي عرقل المساعي، وهدَّد التقدم في التعليم ومحو الأمية، وشلَّ عمل المؤسَّسات التعليمية، وهو ما عمّق فجواتنا التي ينبغي تجسيرها، خاصة ما يتعلق منها بالتعليم واكتساب المعرفة المقتدرة ، فقد أبانت الجائحة أنَّ التعليم لا ينبغي أن يتوجه إلى النشء فحسب، وإنما أن يشمل كذلك وبعمق وتوسع تعليم الكبار ومحو أميتهم.

والله ولي التوفيق

مع تحياتي