علي أحمد الدباس
لم أكتب منذ أشهر اربعة بالتمام والكمال؛ بعد أن أصبحت الكتابة في بلدي مزعجة ومنافقة وكاذبة … اما ان كانت صادقة فمصيرك سيصبح مزعجاً ومنافقاً وكاذباً! أما اليوم فقد قررتُ أن اكتب… فلا أطهر ولا أنبل ولا أرقى ولا أصدق من هذا الشهيد الاردني الذي بُعث اليوم حيّاً في القدس على مشارف حي الشيخ جراح بعد ان عُثر على رفاته في حفرية إنشاء قطار!
إليه أكتبُ لا عنه …. "حارسُ التل" الذي ارتقى الى بارئه في ذلك الحزيران الحزين … ارتقى شهيداً بعد ان سالت دماؤه على تراب فلسطين : لم يبق من أثره في قبره الا خوذته العسكرية ورصاصات لا تتجاوز العشرين هي آخر ما تبقى له من ذخيرة في معركة تل الذخيرة ؛ وسكينه الذي خبأه ليقتل به عدوه بعد ان تنفذ الرصاصات … وساعته التي ما كذبت عليه في توقيت الشهادة …. وخاتمه الذي ما فارق يده كما لم تفارق القدس روحه وهو يدافع عنها حتى آخر قطرة منه!
إليه أكتب … "حارس التل" ؛ الذي حارب في تلك المعركة ببسالة ككل أفراد الجيش العربي الاردني الذين رفضوا الانسحاب حتى استشهدوا جميعا على اسوار بيت المقدس ؛ في ساحات الاقصى ؛ وعلى زيتون حي الشيخ جراح …. ببسالة منقطعة النظير حتى التحموا بالسلاح الابيض واستشهدوا : خسرنا القدس بعدهم وهم كسبوا شهادتهم وبطولتهم وكرامتهم وعزتهم وشجاعتهم وخلودهم الى يومنا هذا!
إليه أكتب هذا العظيم : "حارس التل" ؛ لأعاتبه كيف يستيقظ اليوم بالذات والامة في قمة فرقتها ؛ في أكبر خساراتها ؛ والقدس لا تزال تتعرض لأكبر جريمة عنصرية في التاريخ ولأطول احتلال وأقذره…. كيف به يستيقظ اليوم والحي الذي استشهد دفاعاً عنه يكاد يضيع وأهله سيهجّرون منه وستُهدم بيوته على رؤوس أهلها … يا ترى يا حرس التل العظيم كم عاماً ناظرت ساعتك وهي تعد الساعات والايام والسنوات وانت تنتظر قدومنا مدداً قبل ان تنفذ بطارية ساعتك!
لا يا حارس التل العظيم … لا تجزع مما سترى وتسمع …. فكما استكان البعض فإن ثُلّة صابرة صامدة لا زالت مرابطة في ارضها التي قدمت روحك لأجلها …. ولا زال بيننا من يؤمن ان فلسطين قضيته وأن دماءك ودماء رفاقك الطاهرة باقية هناك في فلسطين العزيزة تنادينا لنعود لها ؛ ولا زالت بيننا قلة قليلة تربي اولادها أنكم أطهر أهل الارض واشرفهم واننا عائدون يوماً محررين الارض التي تضم بحضنها رفاتكم ولو كلفنا ذلك ارواحنا بعد ارواحكم!
يا حارس التل العظيم ؛ يا صاحب المهابة والفخامة؛ يا منارة الحب وقِبلة البطولة ؛ يا ابن الكرام الأكرمين … لا يهمني كل الفحوص التي ستجرى على رفاتك لمعرفة هويتك…. فأنت البطل الذي ما باع ؛ وشعار الجيش العربي على خوذتك يكفيني … أصلاً انت لا تعرف اننا بعدك صرنا من هنا وهناك …. وانت فقط بقيت هناك لا تفرق اصلاً بين هنا وهناك …. هنا بالنسبة لك هو البطين الايمن وهناك هو البطين الايسر …. وقلبك لا زال ينبض بحب فلسطين والعروبة والقيم والأخلاق !
يا حارس التل العظيم … شكراً لك ؛ شكراً بحجم كل الحب الذي اعطيته لفلسطين والقدس وحي الشيخ جراح ؛ شكراً بحجم كل الفخر الذي حركته فينا اليوم …. شكراً بحجم كل التاريخ الذي حفظته تحت خوذتك : تاريخ بطولاتنا دفاعا عن المقدسات المسيحية والاسلامية في القدس وأكنافها!
يا حارس التل العظيم …. أرتعشُ كلما تخيلتُ ذلك المشهد منذ لحظة العثور على رفاتك: كم سيكون شعور ابنائك و أحفادك عظيماً حين تزورهم دورية الجيش العربي بعد انتهاء الفحوصات التي ستحدد هويتك : حين يترجل منها الضابط وينقل لهم (( استشهد البطل على اسوار القدس قبل اربعة وخمسين عاماً )) ! كلما تخيلتُ المشهد أكاد أنتحب من البكاء غابطاً أهلك على الشرف الذي منحتهم اياه …. لا يا حارس التل لا تجزع فأهلك لن ينقلوا رفاتك الى هنا …. كلنا نريد ان نبقيك هناك في الارض التي فديتها بروحك علّنا نعود اليها يوماً ونعيد لك روحك! …. يا صاحب المهابة : اليك في خلودك ننحني اليوم لك ولجميع رفاقك شهداء الجيش العربي في القدس وعموم فلسطين الى أبد الآبدين!