دائماً ثمة من يتساءل عما تريده الصين من العالم، وأهم ملامح أجندتها السياسية خلال الفترة القادمة.. خاصة أنها على أعتاب مرحلة جديدة ستبدأ فيها تطبيق الخطة الخمسية الرابعة عشرة، التي تحمل الكثير من الطموحات والآمال الوطنية، وتتضمن تبني نمط تنموي جديد سيؤثر دون شك على اقتصادات الدول الأخرى وخططها التنموية، حيث للصين علاقات وتبادلات وارتباطات اقتصادية وتجارية واسعة مع كل الدول، وهي أيضاً أكبر محرك للاقتصاد العالمي، والقوة الرئيسية الوحيدة التي تعافت وعاودت العمل والانتعاش وتجنبت إلى حد كبير الركود الحاصل جراء تداعيات تفشي كوفيد 19 حول العالم، نتيجة نجاح إجراءاتها وتدابيرها الصارمة التي اتخذتها للتصدي للوباء والتغلب عليه بعد جهود شاقة.
كذلك الصين هي أكبر سوق في العالم، وكما يرى اقتصاديون فإن المستهلك الصيني سيصبح الأكثر أهمية في الاقتصاد العالمي خلال العقود الأربعة القادمة، ومن المتوقع أن تتجاوز القيمة التراكمية لواردات الصين من السلع في السنوات العشر القادمة 22 تريليون دولار أمريكي، وهذه مجموعة من الفرص غير المسبوقة وغير المشروطة للدول الراغبة في تخطي أزمة الجائحة وبناء اقتصادها..
وحسب توقعات البنك الدولي سينمو الاقتصاد الصيني بنسبة 1.6% بينما سينكمش الاقتصاد العالمي بنسبة 5.2%..
إذن، فنحن حقاً في حاجة لمعرفة كيف تفكر الصين، وكيف ستتعامل مع العالم في المرحلة المقبلة.
ومنذ بداية هذا الشهر شارك الرئيس شي جين بينغ في عدة مؤتمرات واجتماعات إقليمية ودولية مهمة، وألقى كلمات حظيت باهتمام واسع، لما تحمله من إشارات حول رؤية الصين إزاء العالم الخارجي في الأيام القادمة، وسيجد فيها المتسائلون مُبتغاهم وغايتهم.
ونحن نستطيع من خلال قراءة هذه الكلمات وما تضمنته من مقترحات ومبادرات وأفكار أن نتعرف على الخطوط العامة للسياسة الصينية..
ومن اللافت أن الرئيس شي قال في كلمته عبر الفيديو في اجتماع قمة بريكس ال 12، يوم 17 نوفمبر، إن "الصين ستفعل ما تقول".. في رسالة تحمل تعهداً من زعيمها الأكبر بأن ما يصدر عن قادة البلاد من تصريحات أو مبادرات ليس مجرد حبر على ورق، بل هي التزامات تضعها على كاهلها بمحض إرادتها كدولة كبرى مسئولة.
وأكد شي أن نموذج التنمية الجديد سيُمكن الصين من إطلاق العنان بشكل كامل أمام إمكاناتها السوقية وخلق طلب أكبر للبلدان الأخرى، مشدداً على ضرورة تقوية الوعي ببناء مجتمع المستقبل المشترك والمصير المشترك.
كما أوضح أن الصين تسعى للوصول إلى ذروة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون قبل عام 2030م، وتحقيق تحييد الكربون قبل عام 2060م، مشدداً على مبدأ التنمية المتمحورة حول الشعب بشكل أساسي.
وفي افتتاح معرض الصين الدولي الثالث للواردات في شانغهاي، مساء الأربعاء (4 نوفمبر)، قال شي إن الصين تطرح نمطاً إنمائياً جديداً، تتمكن فيه السوقان المحلية والخارجية من تعزيز بعضهما البعض، مع اتخاذ السوق المحلية دعامة أساسية..
مبيناً أن السوق الصينية ستصبح عالمية ومشتركة، وطاقة إيجابية في التجارة الدولية.
وفي الاجتماع العشرين لمجلس رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون يوم 10 نوفمبر، ركز الرئيس شي على التعاون والتضامن في مكافحة الوباء، وضرورة وجود إجراءات عملية لممارسة التعددية وتحسين الحوكمة العالمية والحفاظ على النظام الدولي، مُرحباً بالأطراف كافة لاغتنام الفرص التي تتيحها التنمية في الصين
وفي منتدى باريس الثالث للسلام، يوم الخميس (12نوفمبر)، شدد شي في كلمته التي ألقاها عبر الفيديو على الانفتاح والتعاون لتعزيز التعافي بشكل مشترك..
وفي قمة العشرين الأخيرة، التي انطلقت أعمالها يوم السبت 21 نوفمبر، أشارت كلمة الرئيس شي جين بينغ إلى أن العالم في حقبة ما بعد الوباء سيتجدد بالتأكيد وسيولد مرة أخرى مثل طائر الفينيق (العنقاء)، داعياً إلى التضامن والعمل بشكل مشترك على خلق حياة أفضل وأكثر سعادة و تعزيز بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية.
ولو تتبعنا خطابات شي في مختلف تلك المؤتمرات والاجتماعات لوجدناها جميعاً تحمل عدة كلمات مفتاحية نستشف منها نهجاً سياسياً متكاملاً يقوم على مباديء أصيلة وثابتة، فدائماً تتكرر مفردات التعاون والتضامن والمصير المشترك والمستقبل المشترك والفوز المشترك والتشاور والانفتاح وتبادل الخبرات والتنمية الجديدة والتنمية عالية الجودة والفرص الجديدة والتركيز على الابتكار كمحرك للتنمية، وحماية التعددية وتعزيز الحوكمة العالمية والنظام الدولي ومعارضة الحمائية والأحادية، ومكافحة الوباء وإتاحة اللقاحات الصينية كمنتج عالمي عام وضرورة توفيرها للدول الأكثر احتياجاً، حتى أثناء الفعاليات الوطنية والجولات التفقدية في مقاطعات البلاد هناك حديث عن حماية البيئة وصونها والتعاون والترابط مع باقي دول العالم في هذا المجال.
ولست هنا بصدد استعراض كل كلمات الرئيس شي في المؤتمرات والمناسبات الدولية الرسمية خلال الفترة الماضية وتمحيصها، فهذا أمر يطول، ومن أراد المزيد فليقرأ وليراجع بأي منظور أو منظار يشاء، وإنما هي فقط بعض الإضاءات على سياسة الصين كقوة كبرى وفاعلة ومسئولة على الصعيد الدولي تجاه العالم الخارجي ودولنا العربية التي ننتمي إليها، وما لذلك من انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على حياتنا ومستقبل بلادنا.