عن هدنة غزة

يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من هدنة غزة أن يُظهر نفسه للعالم كبطلِ سلامٍ، غير أنه يريد في الوقت ذاته أن يمحو السجل الإجرامي لرئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته المتطرفة، ويمنع محاكمته ليس في إسرائيل فحسب، بل وفي محكمة العدل الدولية.

‏سيقول ترامب للأمريكيين والعالم إنه أوقف حربًا وشيكة بين الهند وباكستان، وحربًا شرسة بين إسرائيل وإيران، وها هو يوقف العدوان الإسرائيلي على غزة.

‏في إسرائيل، تُصعِّد المعارضة خطابها ضد حكومة نتنياهو أملًا في الفوز بالانتخابات القادمة، إلا أن زعماء المعارضة يريدون استثمار ما حققه نتنياهو ميدانيًا على مستوى المنطقة من دون أن يتحملوا مسؤولية النتائج الكارثية، والقتل، والدمار، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل في المنطقة، وفي قطاع غزة خصوصًا.

‏لا الرئيس الأمريكي، ولا حكومة نتنياهو، ولا المعارضة الإسرائيلية، يتحدثون عن فلسطين وقضيتها وحلِّ الدولتين.

‏بطل السلام الأمريكي هو ذاته الذي قصف اليمن وإيران، وزار الخليج، واستقبل الرئيس السوري أحمد الشرع، وقدم لنتنياهو الدعم العسكري والغطاء السياسي.

‏هو الذي يريد امتلاك غزة ليحوّلها إلى ريفييرا، ويَلوم نتنياهو على «تنازل» إسرائيل عن القطاع سابقًا.

‏هو الذي يرى أن مساحة إسرائيل صغيرة، لكنه يُلمّح، عرضًا، في الآونة الأخيرة إلى مسؤولية العرب في إعادة البناء.

‏وهو الذي يرى في الاتفاقات الإبراهيمية بديلًا عن حل جذور الصراع.

‏صورة إسرائيل في العالم هي الأسوأ منذ قيام دولة الاحتلال، إلا أن الإدارة الأمريكية، مثل المعارضة الإسرائيلية، عن تنسيق أو دونما تنسيق مع الصهيونية العالمية، تُريدان محو صورة إسرائيل الإرهابية والوحشية والخروج على القوانين الدولية والإنسانية، والبناء في الوقت ذاته على ما تحقق جراء هذه الجرائم.

‏هدنة الستين يومًا، إن تحققت، ستكون الاختبار الأخير لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لعالم الأمم المتحدة، والشرعية الدولية، وما يُسمّى بالمجتمع الدولي.

‏تتحرك أوروبا للاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن الولايات المتحدة تعتبر مثل هذا الاعتراف بأنه سيكون خطوة من جانب واحد.

‏من هو الجانب الآخر؟

‏اعتراف أوروبا يعني أن الغالبية الساحقة من دول العالم تعترف بالدولة الفلسطينية، ولا يبقى سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وبضع دول قليلة العدد والوزن السياسي في العالم.

‏هذا هو الجانب الثاني الذي تعتبره الإدارة الأمريكية المجتمع الدولي اليوم.

‏هدنة غزة، على أهميتها، لن تمنع نتنياهو من عدوان يومي على القطاع، ما دام ضامنه يصمت على خروقاته، مثلما يفعل يوميًا في لبنان.

‏هدنة غزة ستفتح كذلك أسئلة الضفة الغربية، والعدوان الإسرائيلي المستمر عليها يوميًا من قتلٍ وتدميرٍ واستيطانٍ وإنكارٍ لكل الحقوق الأساسية.

‏ستطرح كذلك أسئلة مسؤولية النظام العربي، ولو بالحد الأدنى، تجاه الفلسطينيين، وعن خطة إعادة إعمار غزة التي أقرتها القمة العربية الطارئة في القاهرة، وفقًا للمقترح المصري مطلع آذار الماضي، وكذلك تمكين السلطة الوطنية الفلسطينية من الصمود والمواجهة.

‏أما نحن في الأردن، فالحاجة باتت ملحّة إلى مشروع وطني لمواجهة المخاطر الوشيكة الناجمة عن محاولات تصفية القضية الفلسطينية، مشروعٍ يستند إلى المبادئ الثابتة للمملكة تجاه القضية الفلسطينية، وليس إلى العواطف فحسب، وأن يشعر كل مواطن بالمسؤولية فيه، فقوة جبهتنا الداخلية هي العامل الحاسم في دعم أشقائنا، ومواجهة أحلام إسرائيل التوسعية، والوقوف في وجه أي حلول على حساب مصالحنا الوطنية.

‏ستكون الأيام القادمة هي الأخطر في تاريخ العرب الحديث، وستحفظها الأجيال الآتية، فهل يستعيد العرب دورهم الطبيعي في الإقليم، وهم الأكثرية فيه؟ وهل يملكون وسائل التأثير والضغط؟ وهل يستطيعون بناء تحالفات جديدة تعيد التوازن؟

‏النظام العالمي الجديد - القديم انتهى، وعلينا المبادرة نحو عالم أكثر حداثة، يكون لنا دورٌ مؤثّر فيه، أو سنبقى في دوائر الاستقطاب والخضوع والتبعية.