تقول حكاية صينية إن طبيباً كان يسير بالقرب من أحد الأنهار، فسمع استغاثة رجل يغرق، فما كان منه إلا أن قفز إلى الماء من دون تردد لنجدة الرجل، وبمجرد إخراجه، سمع استغاثة آخر وقام بذات التصرف، وتكرر الأمر لعدة مرات، وبعد أن نال التعب من الطبيب رأى رجلاً أعلى الجسر يمسك بالمارة ويلقيهم في النهر. وحكمة هذه الحكاية تنطلق من أهمية معالجة أصل الخلل بدل الانشغال بنتائجه، فالمنطق يقول بأن معالجة الآثار لن تجدي نفعاً، ما دام أساس المشكلة موجوداً ويمارس دوره في «التفريخ» المتواصل.
الكثير من القرارات التي تصدر، تتعامل مع النتائج السلبية لقضايا كبيرة نعانيها، ولكنها في ذات الوقت تتجاهل المشكلة الأصلية التي لو تم حلها لما احتاجت إلى أكثر من قرار واحد، وكفى الله المؤمنين القتال، وبرغم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل مصدراً لزعزعة دعائم استقرار المجتمع فإن الجهود التي تبذل منذ سنوات طويلة تنجرف في وحل النتائج دون التركيز على تجفيف المنبع، لذلك يبقى التأثير آنياً ومرحلياً، ونبقى ندور في ذات الدائرة، بلا حلول جذرية توفر علينا الوقت والجهد اللازمين لمواكبة العالم وتطوره.
الظروف والمتغيرات الإقليمية والدولية لم تعد تخدم أي دولة، والكل عليه أن يعتمد على أدواته ومعطياته إذا أراد الخروج من أزماته، فلا أحد يكترث للآخر إلا بقدر ما يقدم له من تنازلات ويتوافق مع سياسته وتوجهاته، وهذا منطق السياسة، فلا مواقف مجانية، وهذا الحال يتطلب منا مراجعة منظومة العمل العام بكافة تفاصيلها لاكتشاف منابع الخلل، ووضع الآليات الكفيلة بإيقافها، وأولاها المنظومة القانونية، فلا إدارة بلا ضوابط وأنظمة تحدد الواجبات والحقوق والصلاحيات.
نحارب في معركة البطالة منذ عقود وأطلقنا مئات المبادرات والبرامج لتخفيف نسب البطالة، إلا أن عدّاد الزيادة لم يتوقف بل ظل يتصاعد بشكل مخيف، نحارب الفساد الإداري والمالي وفي كل مرة نصبح حديث الصحافة الدولية ثم تتلاشى الجهود ونعود لذات الدورة المعهودة، نتحدث عن تراجع في الصحة والتعليم، من دون أن نصل إلى نتائج ملموسة تعيد إلينا سمعة ومكانة الأردن كحاضنة إقليمية للباحثين عن مستوى متميز في مجال العلاج والدراسة، والأمثلة عديدة وكثيرة، وهذا ما يؤكد أن مسؤولينا غرقوا في معالجة الآثار ونسوا المسببات والمحفزات الرئيسية التي نتجت عنها تلك الآثار.
ما نحتاج إليه اليوم قراءة حقيقية لمشاكلنا، تبدأ من حوكمة إصدار القرار، وضبطه بسيادة مطلقة للقانون، وإعادة صياغة واقعنا التعليمي، وتحديد قطاعاتنا ذات فرص النمو الكبيرة والمنافسة، ووضع تشريعات وأنظمة لمراجعة الأداء ومحاسبة المقصرين بغض النظر عن المستويات الوظيفية، فليس كل الفساد مالياً، حيث إن الإهمال وعدم القيام بالواجبات أخطر وأكثر ضرراً من التعدي على ميزانية الدولة، لأن الإهمال يعمل عمل السوس الذي ينخر في الخشب ولا يلتفت إليه أحد.
باختصار، نحن اليوم أمام مرحلة مفصلية تحتاج منا إلى مراجعة الذات ونقدها، والبحث عن جوهر مشاكلنا، ودراسة أسبابها وآليات معالجتها، حتى وإن تطلب ذلك وقتاً، فعلى الأقل نسير في الطريق الصحيح نحو إيجاد حلول مستدامة لمشاكلنا، أما أن نواصل «تفريخ» برامج ومشاريع «ترقيعية»، فهذا ليس سوى بطولات دونكيشوتية ومهرجانات في سوق التصريحات التفاؤلية فيما لا يزال هناك أناس يبحثون عن أساسيات الحياة، وليتهم يجدون قليلها، الوقت ليس في مصلحة أحد و»أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً».